محمد الخامس إلى جانب الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفيلت ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل
مدة القراءة: 6′
بعد انهزام فرنسا أمام القوات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، تشكلت حكومة فرنسية موالية للنازيين تزعمها المارشال هنري فيليب بيتان، وسميت بحكومة “فيشي”، نسبة إلى بلدة فيشي التي شهدت توقيع هدنه بين الجانبين يوم 22 يونيو 1940.
وكان النازيون يعادون اليهود، وهو نفس النهج الذي سارت عليه حكومة فيشي، التي وجدت نفسها تسيطر على مستعمرات عديدة من بينها المغرب والجزائر وتونس.
وفي يوم 31 أكتوبر 1940 أصدرت الحكومة الفرنسية الجديدة قانونا جديدا خاصا باليهود، يمنعهم من تقلد مناصب عمومية، أو مهام نيابية، أو وظائف في التدريس والإعلام…، وسعت إلى تطبيقه في باقي مستعمراتها، بما في ذلك المغرب.
قوانين النازية في المغرب
لكن، وبحسب كتاب “محمد الخامس واليهود المغاربة” لصاحبه روبير أصراف، لم يكن بوسع حكومة فيشي تطبيق القانون الجديد في المغرب على غرار ما فعلت في الجزائر، لأن “اليهود المغاربة هم رعايا السلطان” وهو “رئيس دولة تعتبر نظريا ذات سيادة” تخضع لحماية دولة أجنبية، لذلك طالبت حكومة فيشي من المقيم العام بالمغرب الجنرال شارل نوغيس تكييف القانون الخاص باليهود مع الشروط والظروف المحلية، ودفع السلطان إلى قبوله، على اعتبار أنه هو الوحيد المؤهل لإعطاء قوة القانون في شكل ظهير”.
وكان اليهود المغاربة ينتظرون أن يعارض السلطان محمد الخامس تطبيق القانون في المغرب، وعلى الخصوص بعد تجربة الظهير البربري، وأشارت المخابرات العسكرية الفرنسية حسب نفس المصدر إلى أن يهود المغرب كانوا يقولون “إن جلالة الملك سيخالف النص القرآني إذا ما صادق على إجراءات متناقضة نصا وروحا لمضمون القرآن. فإن للمسيحيين واليهود، في نظرهم، الحق في العيش في أرض إسلامية ولهم أن يقوموا فيما بجميع المهن التي لا مساس لها بالدين على شرط أداء الضرائب، واحترام التشريع الإسلامي”.
لكن الوقائع أثبتت أن اليهود بالغوا في تقدير موقف السلطان، الذي أقنعته سلطات الحماية بالتوقيع على القانون بعد إدخال تعديلات عليه، وذلك يوم 31 أكتوبر 1940.
ورغم أن هذا القانون منع اليهود من تقلد عدة وظائف، إلا أن حكومة فيشي اعتبرته متساهلا، وقررت في مارس من سنة 1941، إنشاء مفوضة عامة لليهود، تختص في محاربة “النفوذ اليهودي” في المجالات الفكرية والاقتصادية، وأسندت إدارتها إلى شخص مشهور يمعاداته لليهود يدعى كزافيي فالات.
وتعاظم إقصاء اليهود في فرنسا من الحياة الاقتصادية والسياسية، وانتقل ذلك إلى الجزائر، وبدأ اليهود المغاربية ينظرون بقلق إلى تطور الأوضاع، خصوصا وأن كزافيي عبر عن رغبته في تمديد القانون ليشمل المغرب وتونس.
وأمام هذا الوضع، يشير كتاب “محمد الخامس واليهود المغاربة” إلى أن رؤساء الطوائف اليهودية الأربع الأساسية في المغرب: يحيى زاكوري عن الدار البيضاء، وألبير أمييل عن الرباط، وابن سيون حايوت عن سلا وجوزيف بيرديغو عن مكناس، وجهوا ملتمسا إلى المقيم العام الجنرال نوغيس، جاء فيه:
“إننا لسنا في حاجة إلى أن نقول لكم بأن هذا القلق يتقاسمه جميع طوائفنا، الذين يتصورون بكل سهولة الاضطراب الذي يمكن أن تلحقه هذه الإجراءات المقررة ضدهم، وضد أناس آخرين تحت كفالتهم، سواء على الصعيد المعنوي أو على الصعيد المادي…
ويدركون أن مستقبل، بل وجود هذه الطوائف في خطر، ويشعرون بأنهم، مع ذلك أبعد من أن يستحقوا مثل هذه الإجراءات القاسية…، إن اليهود الذين يقيمون بالمغرب، منذ عدة قرون، شكلوا دائما بهذا البلد عنصر هدوء وإخلاص وعمل. وما فتئوا، حتى قبل الحماية يعبرون عن تعلقهم بفرنسا، العظيمة دوما، ولو في ساعة الشدة…
كما أن تصور الأفق المرعب من طرف إخواننا، بإقصائهم كلية من الحياة الاقتصادية، والفكرية والاجتماعية لبلد ظلوا متشبثين به منذ القدم يؤدي بهم إلى اليأس، وعلينا واجب نقل هذه الحالة إلى جناب ممثل فرنسا، ملتمسين منه إبعاد الكارثة التي تطل برأسها”.
السلطان يطمئن اليهود
لكن رغم ذلك ويوم 11 غشت 1941 علم اليهود وعن طريق الصحافة دخول القانون الجديد حيز التنفيذ، وهو مبوب بأربعة ظهائر موقعة من قبل السلطان المغربي. ووسع القانون الجديد حقل المهن الممنوعة، ولم يعد ممكنا رؤية يهودي بنكيا أو مصرفيا أو وكيلا عقاريا أو بائع ممتلكان، أو ناشر أو مديرا…
وزادت موافقة السلطان على القانون الجديد تحت ضغط سلطات الحماية، من خوف اليهود المغاربة، الذين أبلغوا مخاوفهم للقصر.
ومن أجل التهديء من مخاوفهم خاطبهم السلطان قائلا “اطمئنوا، فلم أوقع على أي شيء آخر يتعلق باليهود المغاربة. انني اعتبركم مغاربة، وبنفس درجة المسلمين، ولن يسمح بالمس بممتلكاتكم. وفي حالة ما إذا سمعتم أخبارا سيئة تتعلق باليهود ، لا تترددوا في القدوم عندي”.
ووجد خبر توقيع السلطان على القانون، صدى في الخارج، إذ أوردت “وكالة الأخبار التلغرافية اليهودية” من لندن بحسب ذات الكتاب الخبر في نشرتها يوم 13 غشت 1941 وقالت:
“الأخبار الواردة من الرباط، تقول إن حكومة فيشي وجدت صعوبات للحصول على موافقة السلطان، الذي أصبح كثير الاستقلال، منذ اندحار فرنسا. ويؤكد البلاغ الرسمي أن المصادقة على القانون جاءت بعد دراسة تمت باتفاق كامل مع السلطات الشريفة، ويوضح أن التعديلات التي تم تبنيها لفائدة 160 ألف يهودي مغربي أخذت بعين الاعتبار الأحداث المحلية. وستكون القوانين المتعلقة باليهود الأجانب هي قوانين حكومة فيشي. أما القوانين المتعلقة باليهود المغاربة فتسمح بحرية ممارسة الصناعة التقليدية وتجارة التقسيط”.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وفي 18 غشت من سنة 1941، حل صاحب القانون الجديد كزافيي فالات بالمغرب، وذلك من أجل الوقوف على تطبيق القانون.
وبعد مرور يومان على زيارة فالات، ظهر إجراء جديد ضد اليهود الذين يسكنون الأحياء الأوروبية، يقضي بعودتهم إلى الملاح.
كما تم إحصاء اليهود وجرد ممتلكاتهم، فضلا عن إلغاء جميع مشتريات الممتلكات التي قام بها اليهود منذ سنة 1918، وإعادتها إلى المسلمين الذين قاموا ببيعها، وتم إيداع يهود تافيلالت الذين حاولوا مقاومة هذا القرار السجن، ولم يفرج عنهم إلا بعد موافقتهم عليه.
ووجد رؤساء الطوائف اليهودية أنفسهم مرة أخرى مجبرين على اللجوء إلى السلطان وحسب شهادة جوزيف بيرديغو، رئيس طائفة مكناس، فقد دخلوا إلى القصر، مختبئين في شاحنة مغطاة. وندد السلطان خلال اللقاء بـ”جميع الإجراءات التمييزية التي راحوا ضحيتها، وذكر أن اليهود ظلوا دائما تحت حمايته،” ووعدهم بتخفيف حدة القوانين التمييزية ضدهم.
أمريكا تتدخل
في 8 نونبر سمع يهود الدار البيضاء دوي انفجارات، واعتقدوا أنهم سيتعرضون للتقتيل، لكن سرعان ما تحول الخوف إل فرح، بعدما علموا أن هذه الأصوات لم يكن مصدرها الفرنسيون وإنما الأمريكيون الذين نفذوا عملية عسكرية أطلق عليها اسم “الشعلة” (تورش).
ونشبت حرب بين سلطات الحماية والأمريكيين، وبعد ذلك طلب السلطان من المقيم العام إنهاء القتال لأن قوات “الحلفاء جاءت كصديقة”. وخصص اليهود استقبالا حماسيا للأمريكيين، وهو ما ردت عليه سلطات الحماية باعتقال العديد منهم في مدن مختلفة.
إثر ذلك قامت المنظمات اليهودية الأمريكية بـ”حملة صحفية عنيفة” ضد سياسة حكومتهم في إفريقيا الشمالية، وضغطت واشنطن نتيجة ذلك للتخلي عن قوانين فيشي في المغرب والجزائر، وصدرت مذكرة يوم 15 مارس 1943 “تضع حدا للتشريع المعادي لليهود بإفريقيا الشمالية وبالمغرب. واستقال نوغيس خوفا على سلامته، يوم 4 يونيو 1943، والتجأ إلى البرتغال”.
إثر ذلك قام السلطان بزيارات إلى العديد من المدن والتقى بالعديد من ممثلي الطوائف اليهودية بالمغرب، وطمأنهم حول مستقبلهم في المغرب.