منذ الخطاب الملكي السامي بمناسبة ثورة الملك والشعب 20غشت2022 الذي قال فيه جلالة الملك إن “الصحراء المغربية هي النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، حملت هذه المقولة ملامح السياسة الخارجية المغربية الجديدة في ملف الصحراء، وجاء تأكيد صرامة وقوة هذه المقولة، في الخطاب الملكي بمناسبة بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية في 11أكتوبر2024، الذي ذكَّر فيه جلالته، بالمكتسبات المحققة وتوالي الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء، هذه المكتسبات أعطت إشارات قوية أن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وبذات الخطاب الملكي حمل جلالة الملك النبأ السار للمغاربة، باعتراف الجمهورية الفرنسية بالسيادة الكاملة للمغرب على صحرائه تحت مبادرة الحكم الذاتي التي يراها المغرب.
ليتجسد بذلك عمل وديبلوماسية ملكنا الهمام بكل عزم وتأني، وبرؤية واضحة، للتعريف بعدالة موقف بلادنا، وبحقوقنا التاريخية والمشروعة في صحرائنا، الديبلوماسية الرصينة لجلالته والتبصر مكنت من إدارة الاختلاف مع دولة فرنسا بكل عقلنة ودهاء، بمد وجزر وبعد بفتور للعلاقات، تم عودتها أكثر قوة من ذي قبل، ليعرف الجميع من هو المغرب المحمل بإرثه الحضاري وتاريخه المجيد الضارب في عمق التاريخ.
موقف جمهورية فرنسا الجديد بشأن الصحراء المغربية، وخروجها من منطقتها الرمادية وخطة اللعب على الحبلين إلى منطقة الوضوح في الموقف، حكَمتها بعض المتغيرات، أهمها ما جاء بلسان جلالة الملك الذي قال إن “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم”، موقف الملك قائد الديبلوماسية المغربية، كان حاسما وجاء خاتمة وليس مقدمة كما ضن البعض.
بمعنى آخر أدركت فرنسا أخيرا أن المغرب لا يمكن تجاوزه ولا القفز فوقه، سواء في علاقة أوربا ككل بإفريقيا (شمال جنوب) أو بعلاقة فرنسا مع حديقتها الخلفية بإفريقيا، هذا الاعتقاد الجديد لفرنسا جاء، بعدما تبيّن أن مستقبل المنطقة في جوانبها المتعددة الاقتصادية والأمنية والثقافية، لا تخلو من ريادة المغرب كبلد موجِّه ونموذجي، هذه المكانة الافريقية للمغرب بوأتها الشراكة الموثوقة مع دول افريقيا من غربها الى شرقها، فلم يعد لفرنسا المسكونة بهواجس بالسوق الافريقي [سيما بعد توغل طريق الحرير الصيني بالقارة وتحول الدب الروسي من الثلوج الى رمال صحراء افريقيا] أمام هذ الوضع، إلا الارتكان إلى التعاون مع المغرب بمنطق جديد قائم على التشارك و التعاون والبناء الاستراتيجي لأفق اقتصادي و سياسي موحد، ينهل من عمق العلاقة المتجذرة و التاريخية لفرنسا مع المغرب وينشد مستقبل الازدهار للبلدين.
ويجب أن نستحضر هنا كيف خسرت فرنسا (كواجهة لأروبا الغربية) في السنوات الأخيرة بعض معاقلها السياسية في افريقيا، وتراجع نفوذها المستمر والذي حتمًا أضر بشكل كبير بتكتلاتها الاقتصادية وبتنافسية اقتصادها، هذا الخروج المطرد لفرنسا جزئيا من افريقيا، أرغم عليها خوض الرهانات الاقتصادية والجيواستراتيجية لبث النفوذ من جديد بأشكال وقوالب جديدة في إفريقيا الجديدة، ولن يكون هذا الرجوع إلا بتثبيت أقدام الشراكة مع المغرب، الذي أصبح الشريك الموثوق به رقم واحد لأغلب الدول الافريقية بفضل الرؤية الحكيمة لجلالة الملك؛ في نفاذ المغرب الى عمقه الافريقي بالمورث الحضاري والديني وحسن الجوار والتعاون والشراكة الاقتصادية المربحة، وبالمبادرات الاستراتيجية كمبادرة الدول الإفريقية الأطلسية، إضافة إلى مبادرة تمكين دول الساحل من الولوج إلى المحيط الأطلسي.
زيارة ماكرون للمغرب، جاءت بعد استنفاذ فرنسا لبعض خيارتها السياسية بالقارة، والتي أبان الوضع الإقليمي أنه لا يعوّل على هاته الخيارات، خاصة في الملف المالي مثلا، وكان اللجوء الى التعاون مع المغرب؛ كدولة تحترم مسافات التدخل في سيادة الدول الافريقية الشقيقة، وتبني علاقاتها على أساس الثقة المتينة والشراكة المربحة.
وبالتالي زيارة ماكرون للمغرب، تأتي في سياق تصحيح فرنسا لرؤيتها للقارة، خاصة اتجاه المغرب باعتباره الحليف الأول والشريك الأول لفرنسا اقتصاديا في المنطقة، فالمناسبة هي لتقويم الموقف الفرنسي من النزاع المفتعل في قضية الصحراء المغربية، تجسد ذلك بإعلان رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون أمام البرلمان المغربي وقبل ذلك في رسالته الموجهة الى عاهل البلاد، أن“ حاضر ومستقبل الصحراء يقعان ضمن السيادة المغربية”، هذا الموقف نقل فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن من حالة الحياد السلبي والضبابية الى حالة الوضوح، و ما يتطلب هذا الاعتراف من مواقف سواء في مجلس الأمن أو في الأمم المتحدة، لأنه موقف نابع من توجُّهات السياسية الخارجية لدولة فرنسا و بالتالي فهو “مبدأ” ملزِم وملازم لمواقف فرنسا في المنتظمات الدولية وفي علاقتها بباقي الدول في هذ الملف.
هذا من جانب دولة فرنسا، أما من جانبنا، فإن ملف المغرب الأول، تعزز باعتراف فرنسي له وزنه التاريخي وثقله القانوني، انضاف إلى الدول الصديقة والشقيقة الداعمة لمغربية الصحراء، هذا الاعتراف ينتصر للحق والشرعية ويشكل لحظة فاصلة في مسار التطور الإيجابي للحل النهائي لهذه القضية، والأهم أنه خيار لا رجعة فيه ولا يمكن التراجع عنه.
البعد السياسي لعلاقة المغرب وفرنسا ينعكس على التعاون الاقتصادي، بشكل أكثر متانة بعد إعلان البلدين على بناء شراكة استراتيجية شاملة، خاصة في مجالات الطاقة والأمن الغذائي ومحاربة الهجرة والتطرف، بعد نجاح المغرب في أن يكون مستقبل للصناعة الثقيلة ونموذج في التحول الطاقي، جعل منه خيارا استراتيجيا للدول الأوربية الباحثة عن الطاقة النظيفة بديلة للكربون، لمواجهة التحدي المناخي والبيئي الذي حدده الاتحاد الأوربي، ويشكل الفضاء الكبير للصحراء المغربية فضاءً خصبا للاستثمارات الأوربية بما يزخر به من مقومات طبيعية ومناخية هامة.
فموقف فرنسا من مغربية الصحراء والمكاسب المشتركة بينهما، في البعدين الاقتصادي والسياسي، ستشكل لا محالة، نموذجا مغريا للشراكة بين الشمال والجنوب، وسيحفز طموح بعض الدول الأوربية للاستثمار في هذا التوجه، لا سيما ألمانيا وبريطانيا اللّتان بدأتا بالفعل خطط الانتفاع من الطاقة المغربية النظيفة والهيدروجين الأخضر.