يؤكد مسار مراجعة مدونة الاسرة قيادة المؤسسة الملكية للإصلاحات المجتمعية الكبرى التي عرفها ويعرفها المجتمع المغربي، زادها في ذلك الاجماع المتجدد عليها ومنظومة المشروعيات المتعددة التي تنهض عليها، بالإضافة إلى الاختصاصات والمهام الاستراتيجية التي أوكلها الدستور لجلالة الملك، لقد كان بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم الاثنين الماضي، وجلسة العمل التي ترأسها جلالته وكلمتي وزيري العدل والأوقاف التي ألقيت بين يديه عناصر جوهرية في فهم وتحليل مسار ومرجعيات وأفاق هذه المبادرة الإصلاحية الملكية الواعدة، طبعا إن فهما أعمق لها يفرض بالضرورة العودة الى مضامين الرسالة الملكية التأطيرية الموجهة للسيد رئيس الحكومة، وكذا بلاغ الديوان الملكي الذي اعلن عن إحالة جلالته لبعض مقترحات الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الاسرة على المجلس العلمي الأعلى لتقديم الرأي الشرعي فيها.
التعاطي الملكي مع إصلاح مدونة الاسرة هو درس بليغ، أحبط محاولات البعض خلق معركة وهمية يقدم أصحابها أنفسهم بأنهم يدافعون عن الهوية وعن الاسرة المغربية وكذا عن الدين الإسلامي، فالمغرب الذي أنعم عليه الله بمؤسسة امارة المؤمنين ليس في حاجة الى تيارات تدعي الدفاع عن الإسلام، وهمها الأوحد هو غنائم السلطة وامتيازاتها، وهذه حقيقة عشناها في الماضي ووقفنا عن حقيقة البعض الذي يحاول اليوم خلق معارك وهمية لاستعادة مجد سياسي ذهب ولن يعود.
موضوع الاسرة بكل التعقيدات التي يستدعيها والذي بات اليوم يشكل احد أعقد المواضيع التي تواجه المجتمعات المعاصرة شرقا وغربا، ها هو يعالج في بلادنا بكل هدوء وعمق وحكمة بفضل إمارة المؤمنين، وبفضل الحكمة الملكية وحرص جلالة الملك الدائم والموصول منذ اعتلائه العرش على النهوض بالأسرة المغربية، وحماية حقوق المرأة المغربية التي ظلت ردحا طويلا من الزمن تعاني من قراءات فقهية ضيقة لا تساير العصر ولا تعمل الاجتهاد الخلاق، هكذا اذن حرص جلالة الملك على انصاف المرأة المغربية، وتحقيق المصلحة الفضلى للأطفال انطلاقا من قناعة ملكية راسخة، وهي أن لا تنمية ولا تقدم دون تمكين المرأة المغربية من حقوقها التي كفلها لها الإسلام والتي كرستها الاتفاقيات الدولية.
في مختلف الخطب والرسائل والبلاغات الملكية ذات الصلة بمراجعة مدونة الاسرة بدءا بمضامين خطاب عيد العرش الموجه يوم 30 يوليوز 2022، ومرورا بالرسالة الملكية الموجهة للسيد رئيس الحكومة، وكذا بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم 28 يونيو 2024 الذي تضمن توجيهات جلالة الملك للمجلس العلمي الأعلى قصد النظر الشرعي في بعض التعديلات التي تضمنها تقرير الهيئة المكلفة بمراجعة مدونة الاسرة، وصولا الى بلاغ الديوان الملكي الصادر يوم الاثنين الماضي ، ثمة حرص ملكي واضح على أن مرجعيات ومرتكزات هذه المراجعة ثابتة ويتعلق الامر بمبادئ العدل والمساواة والتضامن والانسجام ، النابعة من ديننا الإسلامي الحنيف ، وكذا من القيم الكونية المنبثقة من الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، وهي المرجعيات عينها التي دعى جلالة الملك الى التقيد بها خلال المبادرة التشريعية لمراجعة مدونة الاسرة وما سيليها من مناقشة وتصويت بمجلسي البرلمان.
نحن اذن إزاء مراجعة لمدونة الاسرة تمت بمبادرة ملكية وفي اطار مرجعيات ومرتكزات ملكية واضحة وعلى أساس مقاربة تشاركية واسعة، وهي المقاربة التي مكنت الهيئة من رفع أكثر من مئة مقترح تعديل الى النظر السامي، توخت استمرار الروح الإصلاحية كما عكستها مدونة الأسرة، وقد أحال جلالة الملك سبعة عشر تعديل منها على المجلس العلمي الأعلى، وذلك للنظر الشرعي فيها، حيث أجاز خمسة عشر منها، وبين أن ثلاثة منها تتعلق بنصوص قطعية لا تجيز الاجتهاد فيها، ولعمري إن هذا المسار هو خصوصية مغربية خالصة تمكن من مقاربة هادئة ورصينة لقضية مجتمعية بالغة الدقة بعيدا عن الشعبوية ومنطق الصراع .
علينا ان نتوقف مليا عن هذا المسار الغني والثري الذي مرت منه هذه المبادرة الإصلاحية الملكية الواعدة، ولعل ما يميزه هو قوة وصلابة ورسوخ الثوابت الدينية للمملكة المغربية والمتمثلة في امارة المؤمنين والمذهب المالكي في الفقه، وطريقة الجنيد في التصوف والمذهب الاشعري في العقيدة، هكذا نلاحظ اذن أن إمارة المؤمنين مكنت بلادنا من انجاز الإصلاحات الضرورية في توافق تام مع مبادئ ديننا الحنيف وفي انفتاح على المرجعية المعيارية الدولية ذات الصلة.
في شبكة التحليل هذه هناك عناصر جوهرية وردت في بلاغ الديوان الملكي يجدر التوقف عندها ، أولها وجوب تقيد المبادرة التشريعية التي سيتم عبرها تصريف مخرجات وحصيلة عمل اللجنة المكلفة بمراجعة مدونة الاسرة بذات المرجعيات والمنطلقات التي حددها جلالة الملك في الرسالة الموجهة لرئيس الحكومة المومأ اليها أعلاه، وعلاوة على ذلك فقد اكد جلالة الملك على أن مراجعة مدونة الاسرة وعلى أهميتها بحاجة الى مداخل أخرى لضمان حسن تنفيذ مضامينها، ويتعلق الامر على وجه الخصوص بتقوية القضاء الاسري وبمراجعة النصوص القانونية ذات الصلة ، الى جانب التوعية المجتمعية لتمكين المواطنين من فهم اعمق لحقوقهم.
هذا المسار الخلاق الذي نهض على الاجتهاد الخلاق تم من خلال المدرسة الفقهية المغربية التي ظلت وعلى مر الزمن تتميز بالوسطية والاعتدال بعيدا عن الغلو في فهم الدين والتضيق على العباد، ها نحن اذن أمام لبنة إصلاحية حقوقية كبرى تنضاف الى هذه المسيرة الحقوقية والتنمية التي يقودها الملك بكل حكمة وتبصر غايتها نهضة المجتمع ورقيه وانصاف جميع فئاته وفي مقدمتهم المرأة المغربية.