أكد الكاتب والأكاديمي مصطفى القباج أن قرار إلغاء تدريس الفلسفة في الجامعات المغربية في ثمانينيات القرن الماضي لا تزال آثاره واضحة حتى اليوم مشيراً إلى ارتباط ذلك بتراجع ترتيب الجامعات المغربية في التصنيفات الدولية أو غيابها.
وفي تصريح لموقع “لكم”، قال القباج: “عند تقييم الأنظمة التعليمية، فإن إلغاء تدريس الفلسفة يُعد خطوة خطيرة بلا شك، ويؤثر سلباً على جودة التعليم والتكوين الأكاديمي”.
وأشار القباج إلى أن هذه الخطوة تُفسرها فرق تقييم الجامعات الدولية كدليل على الجمود وضعف الإنتاج العلمي. وأضاف: “أعتقد أن الوقت حان لإعادة الاعتبار للدرس الفلسفي، ليس بإلغائه، بل بتجديد محتواه. يجب أن يتحول المتعلم إلى منتج للفكر الفلسفي، قادرا على التفلسف، بدلاً من الاكتفاء بالغرق في أفكار كانط وهيغل واسبينوزا.”
جاء تصريحه عقب اللقاء العلمي، الذي نظمه المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية السبت 17 نونبر 2024 بالرباط، حول “المسار الفكري والتربوي للدكتور مصطفى القباج”. وأوضح الباحث أن تدريس الفلسفة في الباكالوريا أُدخل إلى النظام التعليمي المغربي ضمن الإصلاحات الفرنسية عام 1930، حيث أصبحت الفلسفة تُدريس بالمؤسسات التعليمية الفرنسية والمدارس التي أنشأها المستعمر بالمغرب، التي كانت مخصصة في البداية لأبناء الفرنسيين، قبل أن يُسمح لبعض أبناء الأعيان المغاربة بالالتحاق بها.
حسب إفادة القباج، وبعد سنوات من إلحاح الحركة الوطنية على فرنسا للقيام ببعض الإصلاحات، “حولت فرنسا بشكل فجائي الفلسفة من ثانوياتها إلى الثانويات العامة في المغرب، بما في ذلك التعليم الأصيل والتعليم الخاص، بشرط أن يتم تدريسها باللغة العربية. وهذا هو الشيء الغريب، إذ أن المغرب لم يكن قد عرف الدرس الفلسفي في الباكالوريا، ولم يكن لديه أساتذة متخصصون في هذا المجال، ولا معجم فلسفي أو رصيد معرفي.”
وأضاف صاحب سلسلة كتب “عما يتحدثون؟”، أنه بين يوم وليلة أصبح يتم تدريس الفلسفة بالعربية، وهذا خلق الكثير من المشاكل. “أعرف أن بعض الإخوة وصلوا إلى درجة الأزمة النفسية، بل إن أحدهم حاول الانتحار، أذكر من هؤلاء نور الدين الصايل، عبد اللطيف الفلق، ومحمد السباعي…”. وأشار إلى أن هؤلاء جميعاً واجهوا صعوبة في تدريس الفلسفة، ولم يستطيعوا الاستمرار في هذه المهمة، مما دفع إلى تكوين فريق من الأساتذة الذين تم تأهيلهم في المدرسة العليا للأساتذة لتدريس الفلسفة في الثانويات.
“الواقع أن الدرس الفلسفي ظل يحمل تحديات كبيرة، أهمها: كيف نحوله إلى درس مرح وسلس، يسهل فهمه على التلاميذ؟” يتساءل القباج.
وأشار القباج إلى تجربته الشخصية في تدريس الفلسفة بثانويات الرباط وسلا والقنيطرة، حيث حاول مع مجموعة من الأساتذة مواجهة هذه التحديات. وكان من بين المبادرات البارزة التعاون مع المدير التربوي حينها، وهو عبد الجليل الحجمري، لإعداد برنامج لاستكمال التكوين في المدرسة العليا للأساتذة. وركز هذا البرنامج على سد النقص في التكوين الفلسفي، خاصة في مجالات الأبستمولوجيا، وسؤال الوجود، والأخلاق، والميتافيزيقا، وغيرها.
وأشار القباج إلى أن هذه المحاولات لإصلاح الدرس الفلسفي لم تكن معزولة عن نقاش عالمي حول تدريس الفلسفة، مستشهدًا بتجربة جاك ديريدا في فرنسا. وقال: “في السبعينات، قاد جاك ديريدا معركة حول تدريس الفلسفة في فرنسا، مستفيدًا من خبرته التدريسية في المدرسة العليا للأساتذة بسانت كلو بباريس، حيث أسس مؤسسة للفلسفة وشكل فريقًا لدراسة إشكاليات تعليمها.”
وأضاف: “لم نكن وحدنا في المغرب نعاني من مشاكل في تدريس الفلسفة، بل أيضًا في فرنسا، حيث حاولوا الربط صعوبة الفلسفة في الثانوي بموقف المجتمع منها، وصدر كتاب جمع أبحاث المؤسسة بعنوان غريب: ‘من يخاف الفلسفة؟’”
وأكمل مصطفى القباج: “كان النقاش قد أثير، وكنا نفكر في نفس الاتجاه، فبدأنا مشروعًا ينطلق من سؤال: كيف يمكننا الانتقال من تدريس الفلسفة بالمفهوم الكلاسيكي إلى درس يعزز فعل التفلسف؟ فالتلميذ ليس مطالبًا بمعرفة المعطيات الكبرى. كيف يمكن لتلميذ لم يقرأ أي كتاب في الفلسفة أن يتواصل مباشرة مع هيجل وكانط واسبينوزا؟ هذا أمر مستحيل.”
وزاد قائلا: “بدلًا من ذلك، يجب أن ينطلق الدرس من نصوص ترتبط بالواقع المعيش للتلميذ، مع التركيز على تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وفي الامتحانات، نطلب من التلميذ التعبير عن مواقفه الشخصية، مستفيدًا من النصوص الفلسفية التي درسها، ويقدم نصًا أصيلاً يعكس أفكاره ويعتمد على الاجتهاد والتحليل والتركيب والاستدلال.”
“بينما كنا نفكر في هذا المشروع ونتداول حوله”، يتابع الباحث: “فوجئنا بتغيير مهام كلية علوم التربية، حيث أصبحت مسؤولة عن كافة التخصصات باستثناء تكوين أساتذة الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية.” وفي إطار هذا التحول، تم إلغاء الشعب وتحويلها إلى فروع وأقسام مثل علم النفس التربوي، وعلم الاجتماع التربوي، وفلسفة التربية، لتختفي بذلك الشعب بما فيها الفلسفة، وأقبر هذا المشروع نتيجة لذلك، حسب ما قاله القباج.
وأوصى أساتذة الفلسفة وكل الغيورين عليها الى العودة لدراسة هذا المشروع: “كيف يمكننا تحويل درس الفلسفة الأكاديمي الجامد إلى درس حيوي يهم قضايا الشباب والمراهقين، بدلاً من ملء ذاكرتهم بالكثير من المعلومات المعقدة والصعبة”، يوضح القباج.