اغتيال البراءة
آراء أخرى
اهتز الرأي العام المغربي على حدث اعتقال الطفلة ملاك الطاهري وأبويها وأخيها على خلفية ملفات تهم خالها هشام جيراندو المقيم بكندا، هذا الاعتقال استنفر كل الهيئات الحقوقية الوطنية وهيئات المجتمع المدني مستنكرة ومنددة به.. وبلغ صداه خارج الحدود المغربية.. للتناوله الصحف الدولية كخبر استثنائي.. لأنه يعكس تحولا خطيرا جدا في تعاطي الدولة على المستوى الحقوقي والأمني مع بعض المعارضين والذين يعتبرون نفسهم يحاربون ويفضحون فساد بعض المسؤولين المغاربة.. خاصة في الجهاز الأمني والاستخباراتي..
فرغم الطريقة السيئة التي تتعامل بها أجهزة «الدولة العميقة» مع الصحافيين والمدونين والحقوقيين وكتاب الرأي من خلال التشهير بهم، ومضايقتهم، وملاحقتهم، والانتقام منهم، وصناعة ملفات كيدية ضدهم للزج بهم في السجون.. إلى غير ذلك من الأساليب المتصادمة مع القانون والأخلاق.. فلا أحد كان يتصور أن يصل الأمر إلى هذا المستوى الخطير والفظيع من الانتقام الأعمى..
الطفلة ملاك، التلميذة ذات الثلاثة عشر ربيعا، والمريضة بمرض فقر الدم، ودون استحضار هذه الاعتبارات الثلاث (السن والصفة والحالة الصحية) هي غير مسؤولة جنائيا عما يقوم بها الرشداء الذين هي تحت ولايتهم القانونية، حتى وإن أتى أبواها وبعض أفراد عائلتها تصرفات يجرمها القانون، على فرض صحة ذلك!! وبالتالي إقدام الأمن بتعليمات النيابة العامة على اعتقالها ووضعها في السجن هو خرق سافر لحقوق هذه الطفلة، وانتهاك لبراءتها..
المسؤولية الجنائية منعدمة قانونيا في حالة الطفلة ملاك، حتى وإن أتت هي نفسها تصرفات يجرمها القانون، وإلقاء القبض عليها هو جريمة في حد ذاته.. فلا أدري هل كان هذا المعطى غائبا لدى المسؤولين على هذا الاعتقال، أم تم تغييبه عمدا من أجل تبليغ رسالة ما؟
لا أعتقد أن هذا الأمر كان غائبا عن النيابة العامة لحظة إصدار أمر بإلقاء القبض عليها وإيداعها سجن عكاشة.. وإلا فإن هذا الجهاز يعاني من فقر قانوني فظيع، فضلا عن انعدام الحس الحقوقي والإنساني.. وهذا ما يشكل خطرا على الوضع الحقوقي المغربي .. للأسف الشديد..
لقد حاولت «الدولة» تدارك الأمر بإحالة الطفلة على قاضي الأحداث، وإيداعها بعد ذلك في إحدى الإصلاحيات بعد تعرضها لحملة شعبية من الإدانة والاستنكار.. ولكن هل هذا يعتبر حلا في هذه النازلة؟ وهل سيغير من الأمر شيئا؟
الدولة بتصرفها هذا تؤكد للرأي العام المغربي وللمجتمع الحقوقي الوطني والدولي أنها تعيش أزمة حقيقية، أزمة معقدة لا تستطيع الخروج منها، لأنها تفكر بعقلية أمنية إلى حد التغول، وتسعى إلى فرض واقع سياسي وأمني بأي طريقة كانت، ولو بانتهاك القانون، ولو بهتك الأخلاق، ولو باستهداف الأبرياء.. وهذا أخطر منحى يمكن أن تسلكه دولة، وأفظع أسلوب يمكن أن تنتهجه في مواجهة معارضيها..
أن يصل الأمر إلى إصدار أوامر بإعتقال طفلة بريئة ومريضة هو تحول حاد في منعطف انتهاك حقوق الإنسان، وحقوق الطفل على وجه الخصوص، وانحدار خطير في منظومة الأخلاق.. وانزلاق نزولي يصعب معه التوقف الآن، إلا بقرارات جذرية تهم هؤلاء المسؤولين الذي هتكوا وخرقوا القانون والأخلاق بهذه الطريقة المأساوية، وهذا ما يعد صعبا جدا.. ومتأخرا جدا.. والأخطر من ذلك كله إذا لم يكن موضوع اتخاذ قرارات جادة في حق هؤلاء الذين اغتصبوا طفولة ملاك واردا عند أصحاب القرار..
العقل الأمني لا يحاول فهم المرحلة الحرجة التي يعيشها المغرب، ولا يحاول تحليل واقعه، ولا يقرأ تاريخ الأنظمة الاستبدادية السابقة.. ولا يستحضر مآلات وأبعاد تصرفاته.. ولا قدرة له على النظر إلى أبعد من أنفه.. لذلك فهو يقدم على الحلول المتعجلة، والمتهورة، والكارثية.. بعيدا عن أي منطق أخلاقي أو ضوابط قانونية أو مصلحة وطنية..
مشكلة العقل الأمني أنه متسرع، يفتقد إلى الروية.. وكلما حاول حل مشكلة أوقع نفسها فيها، إلا وحشر نفسه في مشكلة أكبر وأعقد.. وأكبر مشاكله أنه وضع نفسه رهن إشارة نظام أوليغارشي مفترس ومتوحش بعد أن ضعفت يد المخزن، أو تم إضعافها من طرف الأوليغارشية نفسها.. وأصبح يُسير (العقل الأمني) إلى جانب النظام القضائي من طرف جهات مسكونة بالحقد على كل من عارضها أو انتقدها، وتخدم بشكل غبي أهداف ومصالح الأوليغارشية المغربية..
ومهما حاولت هذه الجهات تبرير فعلتها (مرحلة انتهاك واغتصاب حقوق الأطفال باسم القانون)، أو الالتفاف على القانون وتحوير الوقائع.. بتوظيف كل المنابر والإعلامية والمواقع الإلكترونية التابعة لها، والمطبلة لكل ما تقوم به، فإن ذلك لن يقنع المغاربة الذين صدمهم اعتقال الطفلة ملاك.. هذا الاعتقال الذي انتهك كل القوانين والحقوق، وسقط في أتون انتقام وعقاب جماعي، أحد ضحاياه طفلة صغيرة وبريئة ومريضة..
السؤال الخطير الآن! كيف ستقرأ ملاك ما وقع لها؟ كيف ستفسره؟ ما هي الاستنتاجات والمواقف التي ستخرج بها بعدما اغتصبت طفولتها وانتهكت حقوقها؟ هذه الأسئلة الخطيرة لن تطرحها ملاك وحدها.. بل هي أسألة مصيرية ستشغل بال وعقل جيلها الذي يرى طفلة في مثل عمره تم اعتقالها وستتم محاكمتها على خلفية قضايا لا يد لها فيها..
العقل الأمني الآن، ومن خلفه نظام الأوليغارشية المغربية يصنعان جيلا حاقدا، ناقما، ساخطا على الدولة، بعد أن تسببت له في فقدان الأمن على مستقبله وحريته وحياته.. اليوم تتم صناعة وتربية جيل سيعارض هذا النظام بقوة وشراسة.. وبالحدة نفسها التي تم بها السيطرة على مقدراته وحياته، وبالحدة نفسها التي تم بها استغلاله واستغباؤه.. والإلقاء به في مستنقع البطالة والتجهيل والتخلف..
ملاك عنوان مرحلة جديدة وخطيرة دخلها المغرب بسبب رعونة وصبيانة العقلية الافتراسية للنظام الأوليغارشي.. وتواطؤ الأحزاب السياسة، وصمت زعماءها الذين لا هم لهم إلا الانتخابات القادمة.. وغياب علماء الدين الذين لا هم لهم إلا قضايا الزواج والطلاق وأحكام العيد.. واختفاء المثقفين المناضلين الذين لا أثر لهم اليوم.. أمام قضايا الظلم الاجتماعي، وانتهاك الحقوق، واغتصاب براءة الأطفال، وهدم بيوتا وأحياء وتهجير ساكنيها.. فتلك قضايا يرونها هؤلاء خارج دائرة اختصاصهم، وغير مشمولة باهتمامهم..
هي مرحلة الفوضى التي تعلو فيها كلمة الاستبداد، وتتعمق فيها جذور الفساد.. وتتوطد فيها ركائز الإوليغارشية.. ولكن إلى حين.. (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا)، (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ).