أمينة المستاري
عاش معظم الناس خلال عام ما قبل الزراعة في جماعات صغيرة مكونة من بضعة أفراد، واستشهد على ذلك بنيوزيلاند التي تتكون من 4.5 مليون عاقل و50 مليون خروف، واستثنى منها الكلب باعتباره أول حيوان دجنه الإنسان العاقل لكن قبل الثورة الزراعية، واستخدمه في الصيد والقتال واعتبر كجهاز إنذار وتمكن من التواصل مع البشر، والحصول على احتياجاته، وبل وتمكن من أن يحضى باهتمام الإنسان ويدفن بطقوس كالبشر.
تحدث هراري عن علاقة الأفراد ببعضهم، عن ارتباط مصالحهم أو مقاتلة بعضهم البعض أو ربط صلات ودية بينهم…فالتعاون يميز الإنسان العاقل ويتفوق به على باقي الأنواع البشرية، على الرغم من قضائه وقتا كبيرا في عزلة واستقلالية، فلم تكن هناك مدن ولا لقاءات موسمية…فقبل الثورة الزراعية كان البشر على الكوكب أقل من عدد سكان القاهرة، وعاشت معظم جماعات العقلاء على الطرق تتجول من مكان إلى آخر، مما مكنها من اكتشاف أراضي جديدة إما بسبب كوارث طبيعية أو صراعات عنيفة….وهكذا انتشر البشر على نطاق عالمي.
مع توفر مصادر الغذاء الوافرة، اضطرت الجماعات للاستقرار الموسمي و الدائم، فأمات بجانب البحار والأنهار وللتزود بحاجياتها…وأقامت قرى صيد دائمة اعتبرت أول المستوطنات الدائمة في التاريخ…ومنها انطلق الإنسان في مشروع الغزو وكان أوله غزو أستراليا.
يصف هراري حالة العاقل الذي تطورت من الجمع إلى الصيد، فيقول أن الجمع كان النشاط الرئيسي للعقلاء، قبل أن يتحول إلى الصيد ( التقاط النمل الأبيض، التوت، مطاردة الأرانب…)، ليس فقط ذلك بل بحث العقلاء عن المعرفة أيضا وخارطة ذهنية مفصلة لأرضهم، ومعلومات عن أنماط عيش الحيوانات ونمو النباتات وعادات الحيوانات…
فخلال عصر الجمع، تطلب البقاء قدرات عقلية كبيرة من كل شخص، وتمكن الجامعون من التحكم بما يحيط بهم وكذا بأجسامهم وحواسهم، تعرفوا على أسرار محيطهم، وتعلموا كيف يتصرفون ويمشون ويجرون بشكل أكثر براعة من بشر اليوم، وتمتعوا بنمط حياة أريح ممن تلاهم، وكانت أيام جمعهم لطعامهم أقل ، وأعمالهم المنزلية أخف فلم يكن لديهم فواتير لتسدد ولا صحون لتجلى ولا فرش لتكنس ولا أرضيات لتكنس…لقد قدم اقتصاد “الجامع” حياة أمتع مما قدمته الزراعة أو الصناعة الحديثة، وذكر المؤلف مثلا لعاملة صينية في مصنع حديث مقارنة بجامعة صينية قبل 30 ألف سنة، مبينا أن حياة هذه الأخيرة كانت أخف وأسهل من الأخرى فهي تستمتع بحياتها بعد ساعات قليلة من جمع الطعام رغم بعض الأخطار التي لا ترقى إلى تلك التي تعترض العاملة الحديثة، كما أن معدل السن كان أكبر عند الجامعين الغابرين مقارنة مع الانسان الحديث.
وقارن بين طعام الجامع قبلا (متنوع) بخلاف طعام الفلاح الغير متزن والمحدود (القمح أو البطاطا أو الرز) الذي افتقر للفيتامينات والمعادن …فلم يكن الجامع يتأثر بغياب مصدر غذائي ويتعامل بحسب الظروف، بخلاف المجتمعات الزراعية التي تتضرر بالجفاف أو الكوارث ، كما عانى الجامعون بشكل أقل من الأمراض المعدية بفضل تدجينهم الكلاب فقط، وتنقلوا في الأراضي في شكل جماعات صغيرة بخلاف المجتمعات الزراعية والصناعية التي دجنت الحيوانات وعاشت في مستوطنات مزدحمة غير صحية…لذلك سميت مجتمعات جامعي ما قبل العصر الزراعي بأنها “مجتمعات الوفرة الأصلية”، رغم أن عالمهم كان قاسيا عديم الرحمة وعرف وفيات الأطفال، وعانى بعضهم من عدوانية وسخرية زملائهم، وقد تخلى الجامعة الحديثون عن كبار السن أو العجزة الغير قادرين على مواكبة الجماعة، وذبح لصغار كقربان للآلهة.
قدم المؤلف نموذجا لشعب آتشي، الصيادين الجامعين، بالباراغواي وبعض الممارسات التي تحدث عنها، لكن من جانب آخر حذر من التسرع في الحكم على الآتشي، لكون علماء الأناسة فندوا تلك النظرية بكون هذا الشعب كان العنف فيه نادرا، وكانوا أحرارا في تغيير شركائهم تجنبوا الاستبداد رفضوا قتل الصغار…بل هم من كانوا ضحية القتل على يد الفلاحين الباراغوائيين، لكن الأرجح يضيف هراري أن الحاجة لتجنب أعدائهم أدت بهم إلى تبني سلوك قاس تجاه من يشكل عائقا للجماعة. لذلك يجب الحذر من جعل هذا مثاليا أو مسخا فهم كانوا بشرا ليسوا بشياطين ولا ملائكة.
عن الحياة الروحية والعقلية للصيادين الجامعين، يتفق العلماء على أن انتشار المعتقدات الروحية بين الجامعين الغابرين، الذي آمنوا بكون الأماكن والحيوانات والظواهر الطبيعية لديها وعي ومشاعر، يمكنها التواصل مع البشر، وكانت هناك كيانات غير مادية كأرواح الوتى وكائنات لطيفة ومؤدية كالملائكة والجنيات والشياطين…
هؤلاء الجامعون الذين سماهم المؤلف “الأرواحيون” آمنوا بأنه لا حاجز بين البشر وباقي الكائنات، ويمكنهم التواصل بالطقوس والرقص والأغاني…كما يمكن طلب المساعدة منها وإخافتها أو تهدئتها، باعتبارها كائنات محلية وليست آلهة عالمية (شجرة، نهر أو جدول…)
يعرف هراري الأرواحية بكونها “اسم عام لآلاف الأديان والثقافات والمعتقدات، لها نهج مشترك تجاه العالم وموقع الإنسان منه”، واعتبر أن النظام الكوني يرتكز على علاقة تراتبية بين البشر والآلهة، وأن لكل مجموعة من “المؤمنين” اعتقادات وممارسات، في حين نظرت لممارسات مجموعات أخرى على أنها “غريبة وهرطقة”.
يعترف هراري أن هناك أفكار ضبابية حول تدين الجامعين الغابرين، رغم افتراض كونهم أرواحيين، لغياب معرفة تامة بالأرواح التي صلوا لها والأعياد التي احتفلوا بها والمحرمات التي راعوها…واعتبرها فجوة كبيرة في فهم تاريخ البشر. ونفس الأمر بالنسبة لعالمهم الاجتماعي السياسي، فالعلماء لا يتفقون غالبا على الأساسيات كالملكية الخاصة والأسر النووية والعلاقات الجنسية الأحادية…
يخلص هراري إلى أنه ومن خلال ملاحظة بعض الآثار ( طفلا سنجير) المدفونين بشكل باذخ، ووضع فرضيات: الأولى أنهما استحقا ذلك الدفن بسبب أبويهما (زعيمي قبيلة) ، أو هما تجسيدا لبعض أرواح الموتى الغابرين، أو أنه تم تقديمهما كقربانين في موكب باذخ، ويجيب الكاتب أنهما بمثابة دليل على أن العقلاء العقلاء استطاعوا، قبل 30 ألف سنة، أن يبتكروا رموزا اجتماعية سياسية هي أبعد من حمضنا النووي وإنما سلوك الأنواع البشرية والحيوانات الأخرى.
The post العاقل…تاريخ مختصر للجنس البشري(4) appeared first on الجريدة 24.