تعد مذبحة ستيلفونتين، منجم الذهب الواقع في شمال غرب جنوب إفريقيا، والتي راح ضحيتها ما لا يقل عن 78 منجميا غير مصرح بهم ،بعد ما ضلوا محاصرين لمدة شهرين دون ماء أو طعام أو مساعدة، تجسيدا صارخا لنظام الفصل العنصري الجديد في البلاد.
واضطر ما يزيد عن 4 آلاف عامل سري، أو ما يطلق عليهم محليا “زاما زاماس”، لمواجهة نقص حاد في الماء والغذاء في غياهب المنجم لعدة أشهر، وذلك بعد أن منعت الشرطة عنهم الإمدادات في محاولة لإجبارهم على الخروج.
وتشهد الجثث الهزيلة التي تم انتشالها من المنجم بشكل صادم عن مدى قساوة الاستراتيجية التي تنهجها دولة جنوب إفريقيا و المتمثلة في ارغام عمال المناجم السريين على “الاستسلام أو الموت جوعا”. و في انتهاك صارخ لأبسط مظاهر الكرامة الإنسانية، قامت عناصر الشرطة والجيش لعدة أيام، بل لأشهر، بمنع سكان المناطق المحيطة بالمنجم من إيصال الطعام والماء والمواد الأساسية لهؤلاء العمال المحاصرين.
وكان من الضروري أن تلجأ منظمات غير حكومية إلى المحكمة لكي تطالب هذه الأخيرة الشرطة بالسماح لبعض السكان المتطوعين بإيصال الطعام الى العمال المحاصرين، كما طلبت المحكمة من الحكومة إطلاق عملية إنقاذ للعمال الذين ما زالوا تحت الأرض، ولكن بعد فوات الأوان، إذ أن رائحة جثث العمال المتحللة داخل مناجم الذهب المهجورة، والتي يبلغ عمقها كيلومترين، تحكي الكثير عن هذه المأساة الجديدة.
وما يحز في النفس أكثر، هو اعتبار بعض المسؤولين ضحايا منجم ستيلفونتين كائنات لا تتمتع بحقوقها كاملة ، حيث كانت التصريحات التي أدلى بها وزير الموارد المعدنية والبترولية غويدي مانتاشي، وكذلك الوزير في رئاسة الجمهورية خومبودزو نتشافيني صادمة إلى حد بعيد، إذ تجاهل الوزيران فصلا كاملا من تاريخ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، عندما شددا على “عدم إظهار أي شفقة و رحمة في التعامل مع العمال السريين “.
ولذلك، فقد بات واضحا لعمال ستيلفونتين، وكذلك للعديد من الملاحظين والمنظمات غير الحكومية، أن الأمر يتعلق بالفعل ب”+ مذبحة+ تتحمل الحكومة الجنوب افريقية مسؤوليتها الكاملة”. ويتجلى ذلك أيضا في التصريحات “المروعة” لعمال نجوا، وفي مقاطع الفيديو التي تظهر الظروف اللاإنسانية ،التي واجهها العمال غير القانونيين تحت الأرض.
ومنذ سنوات طويلة، تم اللجوء الى تقليص الإمدادات الأساسية، مثل الطعام والماء، كاستراتيجية للحد من أنشطة الاستغلال المنجمي غير القانوني للذهب في جنوب إفريقيا.
لكن مذبحة”ستيلفونتين”، التي يتجاوز رعبها مذبحة “ماريكانا” بكثير، رفعت هذه الاستراتيجية إلى مستوى وحشي ، حيث أقدمت الشرطة في 16 غشت من سنة 2012 على قتل 34 من عمال المناجم رميا بالرصاص في منجم بماريكانا، يقع شمال غرب جنوب إفريقيا.
وعلت أصوات عديدة للتنديد بلا مبالاة الحكومة وباستراتيجيتها القمعية تجاه العمال المهاجرين المحاصرين في بئر الذهب، وعبر الأمين العام لاتحاد النقابات في جنوب إفريقيا (سافتو)، زويلينزيما فافي، عن سخطه قائلا: “إن الكثير من هؤلاء العمال اليائسين، الذين ينحدرون من موزمبيق ومالاوي وزيمبابوي وبلدان أخرى في جنوب القارة الإفريقية، ت ركوا ليواجهوا مصيرهم المحتوم في واحدة من أبشع صور الإهمال المتعمد من الدولة”.
وفي السياق ذاته، أكد ريتشارد سبور، أحد أبرز المحامين المدافعين عن حقوق الإنسان في جنوب إفريقيا، أن هناك دوافع قوية لمقاضاة الحكومة، مضيفا أنه “عندما منعت الشرطة إمدادات الطعام للعمال المحاصرين ومنعتهم من مغادرة المنجم، كان عليها أن تدرك أن ذلك سيؤدي إلى هلاكهم جوعا، و يتعين تحميلها المسؤولية عن هذه الوفيات”.
جنوب إفريقيا الحديثة ب نيت بعرق جبين العمال المهاجرين لكن هل نسي المسؤولون في جنوب إفريقيا أن منجم بافلسفونتين، الذي أصبح اليوم محور عملية محاربة الاستغلال غير القانوني للمناجم، قد بني بعرق جبين العمال الموزمبيقيين والزيمبابويين والجنوب إفريقيين؟ و الواقع أن العمال المهاجرين تدفقوا من جميع أنحاء جنوب القارة لاستخراج الذهب والفحم، وهما الركيزتان اللتان قامت عليهما جنوب إفريقيا الحديثة.
وعلى غرار العديد من المآسي الأخرى التي طبعت تاريخ استغلال المناجم في جنوب إفريقيا، فإن هذه المذبحة الجديدة كانت لها عواقب وخيمة على العمال الفقراء السود من الدول المجاورة، الذين يتعرضون، على مدى أجيال ، للاستغلال في المناجم لإثراء الآخرين.
ومهما تكن تبعات هذه المآساة الجديدة، فقد أبانت أن مآسي عمال المناجم ،الذين هلكوا، أو تم تجويعهم ، والذين لم يتم إنقاد بعضهم إلا بعد تدخل المجتمع المدني والمحاكم، ستظل انتهاكا صارخا لابسط حقوق الانسان ، وعلى غرار مذبحة”ماريكانا” أصبحت مذبحة “ستيلفونتين” تطارد الممسكين بزمام السلطة في جنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري.
* “و م ع”