وجد المغرب نفسه طيلة 471 يوما من حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على غزة، ملزماً بتحقيق توازن دقيق بين عاملين متنافرين، فهو من جهة حافظ على مصالحه المتأتية من الاتفاق الثلاثي بينه وبين الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن جهة أخرى ظل منسجماً مع موقفه المبدئي المناصر للفلسطينيين، وذلك بالتعبير صراحة عن إدانته للعدوان الإسرائيلي في أكثر من مناسبة.
رحب المغرب، بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس بقطاع غزة، داعيا إلى تنفيذه بـ”شكل كامل”. وقالت وزارة الخارجية، في بيان، “تعرب المملكة عن أملها في أن يتم احترام اتفاق وقف إطلاق بقطاع غزة بشكل كامل”.
ودعا البيان “الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى إعطاء فرصة للسلام والتحلي بالتزام صادق وبناء، بعيدا عن الاعتبارات الظرفية أو المصلحية”.وتابع: “من الضروري تجنب الخروج من أزمة للدخول في أزمة أخرى، واتفاق وقف إطلاق النار من شأنه أن يفتح الطريق أمام مسلسل حقيقي للسلام”.
بعد قرابة ثلاث سنوات على توقيع اتفاق تطبيع العلاقات بين المغرب وإسرائيل برعاية الولايات المتحدة الأمريكية، اندلعت حرب بين المقاومة الفلسطينية، بقيادة حماس، والاحتلال الإسرائيلي. ورغم طوق “الواقعية والبراغماتية” الذي فرضه الاتفاق الثلاثي على المملكة، فإنها لم تحجم عن التعبير صراحة عن إدانتها لما ارتكبته إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين.
وبعث المغرب أطنانا من المساعدات الغذائية والطبية لسكان قطاع غزة، كما دعا في مناسبات عدة لوقف إطلاق النار، وعبر عن إدانته لانتهاكات الاحتلال الإسرائيلي بالقطاع المحاصر سبع مرات على الأقل، خلال الأشهر الـ15 لحرب الإبادة التي بلغت حصيلتها أكثر من 47 ألف شهيد فلسطيني.
ثبات الدعم
وفي تصريح لجريدة “العمق”، قال أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، عبد النبي صبري، إن مواقف المغرب بشأن القضية الفلسطينية تحكمها جملة من العناصر، أبرزها “الثبات على المواقف المشرفة”، بحيث ظل المغرب ولا يزال يطالب بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية منذ سنوات.
ومن العناصر المحددة أيضا لموقف المغرب بشأن فلسطين، يقول صبري، “مكانة القدس عند المغرب والمغاربة باعتبارها قضية مركزية محورية”، مؤكدا أن المغرب كانت له أياد بيضاء على القضية الفلسطينية من خلال مجموعة من الأمور، منها تأسيس منظمة التعاون الإسلامي (المؤتمر الإسلامي سابقا) في أرض المملكة المغربية بعد إحراق المتطرفين الصهاينة للمسجد الأقصى.
وأشار إلى وقوف المغرب دائما ضد محاولات التهويد أو تغيير الهوية للمقدسيين وللقدس بشكل عام، كما أن الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس، هو “المساهم الوحيد تقريبا في هذه اللجنة بأموال مغربية خالصة وأموال ملكية خالصة”، يضيف الأستاذ الجامعي.
ويتعامل المغرب، بحسب صبري، مع القضية الفلسطينية عموما ومع القدس على وجه الخصوص باعتبارها “قضية قيم وليست قضية مصالح كما تتعامل معها بعض دول الجوار وحتى بعض الدول العربية والإسلامية”، يقول الخبير في العلاقات الدولية.
توازن دقيق
ولم يتأثر تشبث المغرب بموقفه المناصر للقضية الفلسطينية بالاتفاق الثلاثي بينه وبين إسرائيل والولايات المتحدة، وفي نفس الوقت لم تلغ المملكة التطبيع مع إسرائيل، وهو توازن دقيق بين مصالح براغماتية وموقف مبدئي وقيم أخلاقية، تمكن المغرب من تحقيقه.
هذا التوازن بين المواقف المبدئية والمصالح البراغماتية، بحسب الأستاذ الجامعي في العلاقات الدولية، “خيّب آمال كثيرين” ممن كانوا يراهنون على حدوث تحول في موقف المغرب بعد الاتفاق الثلاثي، “لكن الواقع كذّب ذلك”، بحيث طالبت الرباط بوقف فوري لإطلاق النار بغزة وأدانت الانتهاكات الإسرائيلية بأشد العبارات، كما شددت على ضرورة حل سلمي عن طريق المفاوضات.
وفي ماي الماضي، وصف الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس إلى الحاضرين في أشغال القمة الخامسة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي، التي احتضنتها العاصمة الغامبية بانجول، العدوان الإسرائيلي على غزة والأوضاع الإنسانية الصعبة التي خلفها بـ”وصمة العار على جبين الإنسانية”.
وشدد صبري على أن المغرب كان ولا يزال وسيظل يتعامل مع القضية “بما تمليه عليه واجباته الدينية ومقتضياته الأخلاقية ومنظومته القيمية وحضارته الإنسانية وتفاعلاته الكونية”، مشيرا إلى طريقة تفاعل الفلسطينيين مع الدعم المالي لكثير من المؤسسات والدعم لتطوير البنيات التحتية.
وتبرز مواقف المغرب أيضا، يقول صبري، من خلال دعواته إلى وحدة الصف الفلسطيني لتحقيق الأهداف الوطنية، مشيرا في هذا الصدد إلى الاستقبال الذي حظي به عدد من قادة حركة حماس بالمغرب سنة 2021، وبينهم القيادي إسماعيل هنية الذي اغتالته إسرائيل.
فلسطين والصحراء
من جهته، قال المحامي والخبير في شؤون الصحراء، نوفل البوعمري، إن المغرب طيلة سنوات وهو يتبنى القضية الفلسطينية ويعتبرها قضيته الوطنية الأولى إلى جانب ملف الصحراء، كما يتخذها جزءا أساسياً من استراتيجيته التي تحدد سياسته الخارجية حتى بات الملف الفلسطيني جزءا من هوية السياسة الخارجية المغربية.
وأشار البوعمري، في مقال بعنوان “المغرب وفلسطين.. الدعم اللامشروط لا ينتظر جزاء ولا شكورا”، إلى إرسال المملكة مساعدات إنسانية للمدنيين في غزة “دعما لصمود الشعب الفلسطيني رغبة منه في التخفيف عن معاناتهم الإنسانية خاصة في ظل الحصار الذي فُرض على القطاع”.
و”ظل المغرب مؤمنا بعدالة القضية الفلسطينية، مدافعا عن حل الدولتين وعن رهان السلام وتطبيق القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ذات الصلة بالنزاع الفلسطيني انطلاقاً من قناعاته الراسخة بضرورة ضمان السلم والتعايش”، يقول نوفل البوعمري.
واستنكر المغرب قصف مستشفى المعمداني يوم 17 أكتوبر 2023. وندد باستهداف دور العبادة والمستشفيات ومخيمات اللاجئين، كما شجب قصف إسرائيل لمقر اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة، “بشكل يتنافى مع قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني”، وبعدها بأسابيع أدان خرق إسرائيل للقوانين الدولية والقيم الإنسانية في قطاع غزة.
وفي غشت الماضي، رفض المغرب استفزازات الوزراء المتطرفين في الحكومة الإسرائيلية، وندد بمجزرة ارتكبتها إسرائيل بحق النازحين بمدرسة تابعة للأمم المتحدة، وفي نهاية عام 2024، قال بوريطة إن “ما تقوم به إسرائيل من تقتيل للأطفال والنساء وقصف للمستشفيات والمدارس، أمر غير مقبول ويدينه المغرب بشكل متواصل”، وأدان كذلك حظر الاحتلال لعمل “الأنروا”.