في يوم 14 يناير من كل عام، يحتفل المغاربة برأس السنة الأمازيغية، وهو حدث تاريخي وثقافي يحمل دلالات عميقة تتجاوز كونه مجرد مناسبة تقويمية. بعد قرار جلالة الملك محمد السادس جعل هذا اليوم عطلة رسمية مدفوعة الأجر، أصبح الاحتفال برأس السنة الأمازيغية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية المغربية، على غرار الاحتفالات برأس السنة الميلادية ورأس السنة الهجرية.
هذا القرار يُعتبر نقلة نوعية في التعامل مع الأمازيغية كمكون أساسي من مكونات الهوية المغربية، ويعكس التزام الدولة بالاعتراف بالتنوع الثقافي وتعزيزه.
يأتي هذا القرار ضمن سلسلة من المبادرات الملكية التي بدأت بخطاب أجدير التاريخي في عام 2001، والذي شكل نقطة تحول في سياسة الدولة تجاه الأمازيغية، حيث تم الاعتراف بها كلغة وثقافة وطنية.
- التقويم الأمازيغي في سياقه التاريخي
الاحتفال بالسنة الأمازيغية ليس ظاهرة حديثة، بل هو تقليد قديم توارثته شعوب شمال إفريقيا منذ آلاف السنين. يرتبط هذا التقويم ارتباطًا وثيقًا بالأنشطة الزراعية، حيث كان يُستخدم لتنظيم دورة الحياة الزراعية وتحديد مواسم الزراعة والحصاد. ومع مرور الزمن، تحول هذا التقويم من مجرد أداة لتحديد المواسم إلى رمز ثقافي يعكس العلاقة الوطيدة بين الإنسان والطبيعة، ويُعبر عن الهوية الأمازيغية بكل أبعادها.
التقويم الأمازيغي يُعتبر كذلك من أقدم التقاويم في العالم، حيث تأثر بالحضارات القديمة التي تعاقبت على شمال إفريقيا، مثل الحضارة الفينيقية والرومانية. ومع ذلك، فقد احتفظ بطابعه الأمازيغي المميز، مما يجعله شاهدًا على أصالة وعراقة هذه الثقافة وقدرتها على الصمود أمام التأثيرات الخارجية.
يُعرف هذا التقويم أيضًا بـ”التقويم الفلاحي”، نظرًا لارتباطه الوثيق بالزراعة وتنظيم الأنشطة الفلاحية. وعند مقارنة التقويم الأمازيغي بالتقويمات الأخرى، نجد أن لكل تقويم حدثًا تاريخيًا أو أسطوريًا يرتبط به. وعلى سبيل المثال، يرتبط التقويم العبري الذي وصل اليوم إلى 5785 سنة، بحدث “الخروج” الذي يوثق عبور بني إسرائيل البحر الأحمر بقيادة سيدنا موسى عليه السلام. أما التقويم الصيني، فهو تقويم شمسي قمري الذي بلغ اليوم 4722 سنة، ويرتبط بالحضارة الصينية وأسطورة الأبراج الصينية. في حين يرتبط التقويم الميلادي بميلاد المسيح عليه السلام الذي يصادف اليوم 2025 سنة، وهو التقويم الأكثر استخدامًا على مستوى العالم. أما التقويم الهجري، فيعتمد على القمر ويرتبط بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة والذي يصادف اليوم 1446 سنة.
أما التقويم الأمازيغي، فيرتبط بحدث تاريخي مهم، وهو تأسيس الأسرة الثانية والعشرين في مصر القديمة على يد الملك الأمازيغي شيشنق الأول عام 950 قبل الميلاد، اي 2975 حاليا. هذا الحدث يُعتبر نقطة تحول في تاريخ الأمازيغ، حيث أصبحوا قوة سياسية وعسكرية مؤثرة في المنطقة.
- التقويم الأمازيغي كحدث تاريخي وهوية ثقافية
تشير الأبحاث التاريخية إلى أن التقويم الأمازيغي بدأ مع اعتلاء الملك الأمازيغي شيشنق الأول عرش مصر، حيث أسس الأسرة الثانية والعشرين. هذا الحدث لم يكن مجرد انتصار سياسي أو عسكري، بل كان مصدر اعتزاز لشعوب شمال إفريقيا، الذين اعتبروه بداية لتقويمهم الخاص. وبذلك يُعتبر هذا التقويم رمزًا للحضارة الأمازيغية وتأثيرها على التاريخ الإقليمي والدولي.
فالتقويم الأمازيغي ليس مجرد أداة لحساب الزمن، بل هو تعبير عن الهوية الثقافية للأمازيغ. فهو يرتبط بالطبيعة والزراعة، ويُستخدم لتنظيم الأنشطة الفلاحية، مثل تحديد مواسم الزراعة والحصاد. بالإضافة إلى ذلك، يُشكل هذا التقويم عنصرًا جامعًا يُعزز التضامن الاجتماعي، خاصة من خلال الاحتفالات الجماعية التي تكرس قيم التكافل والتعاون.
ويعكس التقويم الأمازيغي رؤية ثقافية تستند إلى احترام الطبيعة والامتنان للموارد الطبيعية. فالاحتفال برأس السنة الأمازيغية يُعتبر مناسبة لتجديد الروابط الاجتماعية والاحتفاء بالهوية المشتركة لشعوب شمال إفريقيا. كما يُعتبر فرصة لتذكير الأجيال الجديدة بتراثهم الثقافي وتاريخهم العريق.
- رمزية الاحتفال الرسمي والشعبي
لطالما كان الاحتفال برأس السنة الأمازيغية تقليدًا شعبيًا يتميز بالطقوس الزراعية، حيث تجتمع العائلات حول المائدة لتناول أطباق تقليدية مثل “أوركيمن” و”تاكلا”، وتُقام الرقصات والموسيقى التقليدية. يُطلق على هذا اليوم أسماء مختلفة مثل “يناير” و”حاكوزا”، ويُعتبر رمزًا للتواصل بين الأجيال والحفاظ على التراث الثقافي.
ومع إعلان رأس السنة الأمازيغية يوم عطلة وطنية مدفوعة الأجر، أصبح الاحتفال يحمل أبعادًا سياسية ووطنية كبيرة. هذا القرار يُعزز روح المواطنة والانتماء، ويعكس رؤية المغرب كدولة متعددة الثقافات. كما يُظهر التزام الدولة بإعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية وتعزيز الوحدة الوطنية في إطار التنوع الثقافي.
على الصعيد الدولي، يُبرز هذا القرار صورة إيجابية للمغرب كبلد متصالح مع ماضيه وقادر على تحويل تنوعه الثقافي إلى نقطة قوة.
- التقويم الأمازيغي كأداة لتجسيد التاريخ والهوية
التقويم الأمازيغي ليس مجرد وسيلة لقياس الزمن، بل هو أداة تُجسد التاريخ والهوية والثقافة الأمازيغية. يعكس ارتباط الإنسان بالطبيعة، ويُرسخ قيم التضامن والتعايش المشترك. ومع الاعتراف الرسمي بالسنة الأمازيغية كعيد وطني، أصبح هذا الاحتفال يشكل خطوة نوعية في تعزيز الوحدة الوطنية في إطار التنوع الثقافي.
الاعتراف برأس السنة الأمازيغية هو أكثر من مجرد احتفال؛ إنه رسالة للمستقبل تُبرز أن التنوع ليس تهديدًا، بل مصدر قوة يثري الهوية الوطنية.
ويُعتبر هذا القرار تأكيدًا على أن الثقافة الأمازيغية هي جزء لا يتجزأ من الهوية المغربية، وأن الاعتراف بها يُعزز التلاحم الاجتماعي والاستقرار الوطني.
فالتقويم الأمازيغي إذن، يُعتبر شاهدًا على عمق الحضارة الأمازيغية وتأثيرها على تاريخ شمال إفريقيا.
رغم أهمية الاعتراف الرسمي، إلا أن المسألة الأمازيغية ظلت تتعرض في مناسبات كالسنة الأمازيغية على سبيل المثال، لتأويلات حاولت التشكيك في أصولها التاريخية والتقليل من قيمتها لأسباب سياسية أو إيديولوجية. غير أن البحوث التاريخية تظهر أن الاحتفال بهذا الحدث له جذور عميقة في تقاليد شعوب شمال إفريقيا، ويمثل جزءًا من الذاكرة التاريخية المشتركة.
الاحتفال برأس السنة الأمازيغية ليس مجرد مناسبة تقويمية، بل هو تعبير عن الهوية الثقافية والانتماء التاريخي. ومع الاعتراف الرسمي بهذا اليوم كعطلة وطنية، أصبح الاحتفال برأس السنة الأمازيغية رمزًا للوحدة الوطنية في إطار التنوع الثقافي، مما يُعزز صورة المغرب كدولة متعددة الثقافات وقادرة على تحويل تنوعها إلى مصدر قوة وتماسك.