شكّل يوم 11 يناير 1944 منعطفًا في نضال الشعب المغربي ضد الاستعمار.
منذ بداية الثلاثينيات، أصبح النضال السياسي يحتل الواجهة بعد هزيمة المقاومة المسلحة في الريف بقيادة عبدالكريم في مايو 1926، وانتهاء المعارك البطولية التي خاضتها قبائل آيت عطا في جبال الأطلس الكبير ضد الجيش الفرنسي وبالتحديد في جبل صاغرو سنة 1934.
وحسب الرواية الفرنسية، فإن المغرب أصبح هادئا.
لم يكن أغلب المغاربة يتوقعون أنهم سيشاهدوا المغرب حراً.
ولا يوجد من يستطيع تحدي القوة العسكرية الفرنسية الهائلة بدباباتها وطائراتها.
فقد استقر الفرنسيون في مستعمرتهم الجديدة وأحكموا سيطرتهم على معظم المناطق وبدأوا في أشغال البنية التحتية ونهب الثروات وتوزيع أخصب الأراضي الزراعية على المستعمرين.
كان الشعور بالاستسلام يُروَج من قبل المؤيدين للحماية، الذين كان دورهم يتمثل في زرع روح الهزيمة والخضوع للمستعمِر.
بعد توقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912، أُجبر السلطان مولاي حفيظ على التنازل عن العرش في غشت من نفس العام.
كان ليوطي يبحث عن سلطان مطيع ليتمكن من “تنظيم المغرب وفقًا لرغباته” (1). فاختار مولاي يوسف الذي تولى العرش الى غاية 1927.
ثم تولى العرش محمد بن يوسف في نوفمبر 1927 وعمره 19 عامًا، وفي بداية عهده لم يستطع مواجهة المقيم الفرنسي فوقّع في 16 مايو 1930 على “الظهير البربري”، الذي أعدّه المقيم العام لوسيان سان.
، وبموجب هذا الظهير، تم نزع الاختصاص الشرعي للقبائل الأمازيغية من حكم السلطان، ووضعه تحت وصاية المراقبين المدنيين الفرنسيين، كخطوة أولى لتقسيم الشعب المغربي على أسس إثنية بين “العرب” و”الأمازيغ”.
في هذا السياق، وخلال أواخر عشرينيات القرن الماضي، أقسمت مجموعات من الشباب المغاربة في الرباط وتطوان وفاس على محاربة الاحتلالين الفرنسي والإسباني لتحرير المغرب وتوحيده، مستلهمين بقيم الإسلام كما حملتها حركة النهضة في المشرق. (2)
أثار “الظهير البربري” غضبًا واسعًا، وتلت ذلك قراءة “اللطيف” في المساجد.
وزار شكيب أرسلان تطوان بين 9 و19 غشت 1930، حيث التقى الشباب الوطنيين من تطوان والوافدين من الرباط وفاس لأول مرة. (3)
تناول النقاش الخطوات اللازم اتخاذها لمواجهة “الظهير البربري”، بالإضافة إلى إنشاء فرع مغربي تابع للجنة السورية – الفلسطينية، التي كانت تعمل على مكافحة الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
وحدت هذه الخلايا جهودها تحت اسم “كتلة العمل الوطني المغربي” في المنطقة الجنوبية الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي، و”حزب الإصلاح” في المنطقة الشمالية الواقعة تحت الاحتلال الإسباني.
أعدت كتلة العمل الوطني المغربي عام 1934 “برنامج الإصلاحات” وقدّمته للسلطان والإقامة العامة.
لكن لم يتم اتخاذ أي إجراء بشأن هذا البرنامج.
وتم حظْر كتلة العمل في مارس 1937 فبادر الوطنيون الى تأسيس “الحزب الوطني لتحقيق الإصلاحات” كبديل.
أعقب ذلك حملة قمع واسعة بعد الاحتجاجات الشعبية ضد تحويل مياه وادي بوفكران في مكناس لصالح المستعمرين الفرنسيين.
وعمَّت الاعتقالات قادة الحزب الوطني ومئات النشطاء ثم حُكم عليهم بالسجن أو النفي. ونُفي علال الفاسي الى الغابون حيث مكث 9 سنين.
أثبتت أحداث 1937 عبثية المطالبة بالإصلاحات في ظل نظام استعماري كانت مصلحته تكمن في استمرار الجهل والتخلف.
كما خاب الأمل في اليسار الفرنسي، الذي بمجرد وصوله إلى السلطة عام 1936، تراجع عن وعوده وتغافل على القمع الوحشي الذي مارسه الجنرال نوغيس في 1937.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، أعادت الأحداث تشكيل الخريطة الجيوسياسية العالمية.
ففي عام 1941، أقر “ميثاق الأطلسي” بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
هل كانت هذه مجرد مناورة من روزفلت وتشرتشل لمواجهة هتلر وستالين؟
ومهما كانت النوايا، فقد أثار ميثاق الأطلسي آمال الشعوب المستعمَرة.
ونال لبنان استقلاله في نوفمبر 1943.
أما في المغرب، فتم تأسيس حزب جديد في نفس العام، وهو حزب الاستقلال.
تميز هذا الحزب بتنظيمه العصري الذي شمل مختلف مناطق المغرب، وبقيادته الجماعية، مما جعله مختلفًا عن البنية التقليدية للتنظيمات السابقة، ومهيأً ليصبح حزبًا جماهيريًا.
كان هدفه الواضح هو تحقيق الاستقلال وتوحيد المغرب كشرط أساسي لإجراء الإصلاحات.
وأصدر الحزب أول بيان له، وهي “عريضة الاستقلال”، الذي وقّعها 58 شخصية وطنية تمثل مختلف مناطق المغرب. وقُدمت هذه العريضة إلى السلطان، والمقيم العام الفرنسي، وممثلي بلدان اخرى في 11 يناير 1944.
طالب الحزب في هذه العريضة بـ”استقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل جلالة ملك البلاد”، وبإحداث “نظام سياسي مشابه لأنظمة الحكم المعتمدة في الدول العربية والإسلامية بالشرق ، تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع”. (4)
كان السلطان محمد بن يوسف يتلقى من قبل الوطنيين، سرًّا، المعلومات حول تحضير هذه العريضة.
عَِلم ديغول، الذي كان يقود حكومة فرنسا الحرة، بهذه الوثيقة. فأرسل مبعوثه ماسيكلي حاملاً رسالة إلى السلطان. وقد استُقبل المبعوث في 28 يناير 1944. وكان الهدف معاتبة السلطان مذكّراً إياه بأن القوة الحامية وحدها هي المخولة بالحكم على طبيعة الإصلاحات وتوقيتها.
يروي شارل أندري جوليان تفاصيل هذا اللقاء قائلاً:
“ولكي يشعر السلطان بوضعه الاسفل، فُرض عليه إعلان، أمام وزرائه وبحضور المقيم العام الفرنسي، الآتي: (يجب أن تختفي كلمة الاستقلال من القلوب والألسنة)، كما فُرض عليه التخلي عن اثنين من مستشاريه”. (5)
في اليوم التالي، 29 يناير، تم اعتقال كل من أحمد بلافريج، ومحمد اليزيدي إضافة إلى 16 شخصية وطنية أخرى بتهمة “التجسس لمصلحة العدو”. وضع أحمد بلافريج في الاعتقال السري مدة 6 أشهر ثم نفي الى كورسيكا سنتين.
وفي نفس اليوم، اندلعت مظاهرات عارمة في الرباط وسلا وفاس ومدن مغربية أخرى، قوبلت بقمع دموي شرس.
كان من الطبيعي إذن أن تُعطى الأولوية، بعد الاستقلال، للإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية التي ذكرها محمد الخامس في أول خطاب للعرش يوم 18 نوفمبر 1955.
حدد الملك للحكومة الجديدة مهمة: “إنشاء مؤسسات ديمقراطية نابعة من انتخابات حرة تقوم على مبدأ فصل السلط في إطار ملكية دستورية تعترف للمغاربة من جميع الديانات بحقوق المواطنة وممارسة الحريات العامة والنقابية.”
لكن مشيئة الأقدار كانت غير ذلك.
فبعدما أُجبرت فرنسا على الخروج من المغرب، أرادت بأي ثمن الحفاظ على مصالحها في البلاد والنيل من استقلاله.
ولم تتردد على استعمال جميع الأساليب واستخدام وكلائها من أجل ذلك ، فمثلا في يناير 1957 ، تم تحريك انتفاضة عدي أوبيهي، وهو قائد أثناء الحماية و عامل تافيلالت بعد الاستقلال، لكنه كان مدعومًا ومسلحًا من قبل الثكنة العسكرية الفرنسية المحلية، وكان هدفه الاتجاه الى الرباط من أجل “تحرير السلطان من قبضة حزب الاستقلال”. (6)
لم تكن القوى الاستعمارية، فرنسا وإسبانيا، على استعداد للتفاوض بشأن الأراضي التي كانت ما زالت تحتلها والأراضي الزراعية والمناجم التي استولت عليها والمصالح الاقتصادية والقواعد العسكرية مع حزب وطني قوي لن يتنازل عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية.
ففي نوفمبر 1955، أثناء تشكيل أول الحكومة في عهد الاستقلال، لم ُتسند رئاستها الى حزب الاستقلال الذي كان نصيبه فقط تسع حقائب وزارية من أصل 22 حقيبة ولم يُسمح للمغرب تأسيس وزارتي الخارجية والدفاع.
انتظر الحزب سنتين ونصف لتأسيس حكومته، برئاسة أحمد بلافريج، لكن لم تدم إلا مدة وجيزة، من مايو إلى ديسمبر 1958.
فسرعان ما واجهت هذه الحكومة تحديات جديدة، من ضمنها انتفاضة الريف وإضرابات متتالية بقيادة الاتحاد المغربي للشغل وتمرد ما يُعرف بـ”يسار” الحزب بقيادة عبدالله إبراهيم والفقيه البصري ، والذي بلغ ذروته باستقالة بد الرحيم بوعبيد، وزير الاقتصاد في نهاية نوفمبر.
فقررت اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال الانسحاب من الحكومة في أوائل ديسمبر وعدم تشكيل أي حكومة أخرى.
ورغم أن عبد الله إبراهيم كان عضوًا في اللجنة التنفيذية، فقد قبل ترؤس الحكومة الجديدة في 24 ديسمبر. كما عاد بوعبيد، وهو أيضًا عضو في اللجنة التنفيذية، إلى منصبه كوزير.
تم تأكيد الانشقاق بإعلان المنشقين عن “حركة تصحيحية” يوم 25 يناير 1959.
وقد وُصفت حكومة عبد الله إبراهيم بـ”اليسارية” من قبل البعض، لكنها كانت في الواقع حكومة انتقالية نحو الحكم المطلق والديمقراطية الشكلية.(7)
كان انشقاق حزب المليون عضواً بمثابة الإجهاز على الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية للبلاد.
واستمر المخزن على حاله كما تركه ليوطي في العشرينات من القرن الماضي.
في ظل الظروف التي يعيشها المغرب اليوم، تكتسب عريضة الاستقلال معناً دراماتيكياً:
فماذا سيقول أباءنا الذين ضحوا بحياتهم لكي يعيش المغرب حراً إذا رأوا بلدهم اليوم حليفًا للنظام الصهيوني الذي حاربوه؟
هل كان ممكناً أن يخضع النظام “لاتفاقيات أبراهام” المشؤومة لو كان المغرب يتمتع بمؤسسات ديمقراطية تعكس الدعم الثابت للشعب المغربي للمقاومة الفلسطينية ومعارضته لكل أشكال التطبيع مع النظام الصهيوني؟
بالإضافة إلى أن إحدى الإصلاحات الأساسية التي تمت المطالبة بها منذ عام 1934 كانت تتعلق بالحريات العامة، والتي أُقرت لاحقًا في عهد حكومة بلافريج عام 1958 من خلال “ظهير الحريات العامة”، الذي نص على: حق التنظيم، وحرية التعبير، وحرية التظاهر، وحرية الصحافة.
ومع ذلك، لا يزال الشباب المغربي يُعتقلون ويُحاكمون بسبب أفكارهم، كما كان الحال في زمن الحماية، بموجب قانون المعروف باسم “كل ما من شأنه”، الذي مازالت آثاره مٌفعلة على أرض الواقع رغم إلغائه.
فمهندس شاب حُكم عليه مؤخرًا بالسجن لمدة عام بسبب دعوته العلنية لمساندة المقاومة الفلسطينية!
وشباب آخرون تتم متابعتهم قضائيًا لأنهم دعوا إلى مقاطعة المنتجات والعلامات التجارية التي تدعم إبادة الشعب الفلسطيني، وهي مقاطعة مسموح بها في إسبانيا وفي العديد من البلدان الأخرى، وذلك في وقت تستمر فيه هذه الإبادة منذ 15 شهرًا وفي صمت رسمي تام.
كما يُسجن صحافيون ويُحاكمون بتهم ملفقة فقط لأن ما يكتبونه لا يرضي الحاكمون.
كما يُسجن شباب منذ سنوات بسبب احتجاجهم ومطالبتهم بتجهيز منطقتهم في الريف بالبنية التحتية الضرورية.
أكثر من أي وقت مضى، وفي ظل هذا السياق الراهن، يحتاج المغرب إلى تحقيق الإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية التي تشكل الحصن الوحيد في مواجهة أطماع الإمبريالية والصهيونية التوسعية.
رغم مرور 81 سنة على وثيقة المطالبة بالاستقلال مازال المطلب الرابع من هذه الوثيقة معلقا، والتي تمت صياغتها هكذا: “يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح الذي يتوقف عليه المغرب في داخله، ويكل لنظره السديد إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في الشرق تحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع.”
لا يمكن لأي تنمية اقتصادية أن تُحدث أثرًا إيجابيًا على المجتمع في ظل نظام سياسي عتيق يتآكله الفساد والظلم الاجتماعي.
ــــ
(1) شارل أندريه جوليان: “المغرب في مواجهة الإمبريالية” (1415-1956)
(2) أحمد بلافريج: “علال الفاسي داعية استقلال المغرب”) (Les Africains – tome XII
(3) شكيب أرسلان كان تلميذًا لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، آباء النهضة الإسلامية في المشرق في بداية القرن العشرين. كان يدير مجلة La Nation arabe التي تعنى بحركات الإصلاح في البلدان الإسلامية وينادي بالوحدة الإسلامية.
(4) بيان الاستقلال – إصدار حزب الاستقلال.
(5) شارل أندريه جوليان: “المغرب في مواجهة الإمبريالية”
(6)عبد اللطيف جبرو : عدي وبيهي ، حكاية عصيان تافيلالت
(7)في ظل هذه الحكومة، تم اعتقال اليوسفي والفقيه البصري. ومنع الحزب الشيوعي المغربي.