هناك الحاضر أو “نار الأسئلة” التي ترافقه، وهناك “الوعكات السياسية” و”العياء الاديولوجي” و”الكاريزما الجوفاء” المتطاحنة في أزمنة الهويات السياسية والعَقدية، والاستبلاد المُنمط بأقنعة صناديق الاقتراع…شَرَّح روني كاليسو، وهو بالمناسبة واحد من أهم الباحثين النجباء في السياسة المعاصرة هذا الوضع تشريحا دقيقا، وصاغ مقولة “التكرار” كبراديغم مُحايث لتاريخانية الفعل السياسي. فداخل “الدولة الصارمة” التي قضت بدولنة المجتمع، وبجعل السلطة تنغرس بشكل مثير في فضائنا اليومي، واستبعدت الإنسان من دائرة الضوء نحو أقبية النسيان، تعليما وتثقيفا، تربية وتنشئة…وداخل مقولة “الدولة المسرح” لرائد أنثربولوجيا الأديان المقارنة كليفورد كيرتز، تربت نفسانية مغربية، عصية عن الإدراك والاستيعاب، مُتمردة على كل مقاسات التحليل النفسي المعتادة، ومنحلة من كل التوصيفات السوسيولوجية…نفسانية تربت على الإنهزامية والتواكل، على الخنوع والانبطاح، على الاستنجاد بالأجنبي في لحظات التيه والضياع، على الانشداد الوجداني للميثولوجيا، كلما عجز مُدركها العقلي عن تفكيك الأشياء، على التماهي مع الاستبداد السياسي، الماتح من تجربة المخزن التاريخية، على الاستسلام الوجودي من الآخر المتفوق في لحظة عدم.
آراء أخرى
نفسانية تاريخانية استدمجت القابلية للأشياء، وقضت بأن تكون على هامش الوقائع، كما ارتضت القابلية للاستعمار، كما تُفصح عن ذلك “استبانة” العروي، ورضت أن تعيش خارج “مداراته الحزينة”، بل وتقاذفت “طاجين” لحظة الإستقلال بعبارة رجل الإقتصاد الراحل إدريس بن علي، دونما إحساس بعمق اللحظة السياسية، وبمسؤولية الزمن التاريخي، وما تقتضيه من حِس وطني مرهف، ومسؤولية أخلاقية في تدبير أشد اللحظات عتمة في اسطوغرافيتنا التاريخية، فهل تلخص مأساتنا حاضرا في تواكل نخبنا مع الفساد؟ في تماهٍ لحظة الحماية “كمنظومة إصلاح نصا” مع تقاليد مغربية منغرسة في وجدان المغاربة، ورعايتها لمغرب الاستقلال؟
من واجب الإنسان إما أن يموت واقفا على قمة جبل، أو أن يكون ممددا على تبن زنزانة مظلمة. لا منزلة بينهما. أنتجنا نخبا أقل وطنية وحماسة من نخب الأمس؟ نخبة علال الفاسي والمهدي بن بركة وعبد الله ابراهيم وعبد الرحيم بوعبيد…وهل العائق الأكبر هو أنفسنا كما أفصح عن ذلك صاحب الاختيار الثوري؟ مستعيضا بنفسه عن نظرية المؤامرة والتكالب الأجنبي التي عمَّرت ردحا من الزمن في أفئدة مثقفينا دون أن تجد مسوغات لتبرير هذا التأخر الحضاري.
ولأن “التاريخ دائما معاصر” بعبارة كروتشي، فلأنه يمكننا من إدانة أذناب الاستعمار الجديد، وسدنة تهجير النظريات وتوطين المفاهيم وغسل العقول، وتنميط الواقع، فحينما يغدو الفكر-التاريخ، مجرد وعاء للتوليف ودغدغة العواطف، وحشد الذاكرة بالملاحم، مفتقدا إلى تشخيص وتحليل واقتراح لسرديات كبرى، تجيب عن انتظارات الفرد المغربي، تلتزم بقضاياه اليومية، وتنهجس بآلام وأمال من هم تحت، من يَئنون في دهاليز النسيان، ومطامير مُعذبي الأرض، نكون قد غادرنا طوعا الزمن التاريخي دون استئذان، ويكون “مثقفونا” مع قليل من التحفظ والارتياب في حالة نشاز، كمن يصارع طواحين الهواء، ونكون بذلك، نحيا زمن أفيون المثقفين، كما زعم السوسيولوجي الفرنسي ريمون أرون، وزمن مكر التاريخ بالتوصيف الهيغيلي، الذي يكتب خفية عن الأنظار، يصعد منه المفبرك، وينغمر الأثير في أجنحة الظلام.
ولأن الذي يُحرك هواجس اليومي هي القراءة، وخارج أنطولوجيا الحاضر لا معنى للقراءة، في مجتمع يدمن الجهالة والتكلس، ويتنطع بالاستبداد، ويخاصم طوعا الزمن التاريخي، فإن طريق الخلاص تظل الطريق، وتبدو متعذرة في وصف وضع ألف “الجمود على الموجود” و”الاستقرار في ظل الانحطاط”، وتغدو معه مقولة العروي أكثر معقولية في فهم الواقع “…لا يُخلصنا من هذه المحنة سوى معجزة…”، دونما تعسف على زفرات التاريخ، وتجنٍّ على تمردات الزمن، ومصادرة لحقه في الهدم وإعادة البناء.
باحث وناقد