الدار/ تحليل
هذا ما طالبت النائبة في البرلمان الأوربي سارة كنافو عندما شبهت العلاقة بين الجزائر وفرنسا، بعلاقة الطلاق غير البائن، حيث تحتفظ فرنسا بحضانة أطفال الجزائر وبقيت ملزمة بأداء النفقة. هذا التشبيه يُظهر إلى أيّ حد أصبحت أجواء العلاقة بين البلدين مسمومة وملوثة بعد رفض السلطات الجزائرية استقبال مؤثر جزائري حرّض على العنف والقتل على التراب الفرنسي. قضية رفض استقبال المؤثر المعروف بعمي بوعلام ليست سوى الشجرة التي تخفي غابة من جذور الخلافات المتعفنة بين البلدين، والتي تستمر منذ عقود من الزمن وتدفع فرنسا بسببها أثمانا باهظة، بينما يمارس النظام الجزائري سياسة الابتزاز تّجاهها.
لسنا هنا بصدد الدفاع عن الموقف الفرنسي، لأن السلطات الفرنسية ليست في حاجة إلى من يدافع عنها، لكن لا أحد يمكن أن ينكر الدور الذي تلعبه الجزائر وبعض رعاياها الموظّفين للأسف من طرف الجهات الاستخباراتية في إثارة العنف والقلاقل داخل الأراضي الفرنسية، والتهديد بإشعال الانتفاضات الشعبية في الضواحي، كلّما حاولت السلطات الفرنسية إنفاذ القانون ضد مواطن أو جهة أو هيئة محسوبة على النظام الجزائري. هناك ملايين المهاجرين الجزائريين الشرفاء الذين يعيشون في فرنسا ويعملون فيها ويتمتعون بحمايتها وامتيازاتها الاجتماعية، لكن هناك قلّة أو شرذمة منهم ترفض الاعتراف بهذا الفضل، وتصرّ على اعتبار فرنسا قوة استعمارية غاشمة على الرغم من أن آخر جندي فرنسي غادر التراب الجزائري قبل أكثر من 60 عاما.
إذا كانت الجزائر قد حصلت على استقلالها فلماذا ينسب المسؤولون الجزائريون الحاليون فشلهم وتعثرهم وفسادهم إلى تركة الاستعمار الفرنسي؟ هكذا تحدّث الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون نفسه في آخر خطاب له عندما قال إن “فرنسا لم تترك لنا سوى الخراب”، في إشارة إلى الوضع الاقتصادي والاجتماعي والتنموي في البلاد. لكن هذه الدعاية الشعبوية الصارخة تنكر أن المستعمر الفرنسي عندما غادر الجزائر سنة 1962 تركها جنة حقيقية بمدنها العصرية ومستشفياتها المجهزة وموانئها وطرقها ومدارسها. في حين يستغل النظام العسكري خيرات الجزائر منذ ذلك الحين ويبذر مقدرات الجزائريين ولم يستطع هذا النظام أن يمدّ حتى كيلومترا واحد من السكك الحديدية أو يؤسس مشروعا واحدا لاستغلال المناجم أو المعادن التي تعجّ بها البلاد.
الطلاق البائن الذي تطالب به سارة كنافو وكثير من الفاعلين السياسيين في فرنسا اليوم جاء بعد سنوات طويلة من كتمان الغيظ والتجاوز عن الكثير من السلوكيات العدائية التي يمارسها أتباع هذا النظام في فرنسا. ومن العار اليوم أن ترفض السلطات الجزائرية التي تدعي أنها مناهضة للاستعمار والاضطهاد الأجنبي استقبال مواطن من مواطنيها بعد طرده من البلد المستعمر. إذا كانت الجزائر تكره فعلا فرنسا وممارساتها الاستعمارية فلماذا لم تفتح الحدود أمام مواطن جزائري مضطهد في بلاد المستعمر؟ إنها مفارقة صارخة تظهر أن النظام الجزائري مجرد ظاهرة صوتية وشعبوية لا غير، وأنه يدرك أن قبول هذا الإجراء سيفتح عليه الويلات لأنه ببساطة نظام فاشل وغير قادر على احتضان أبنائه الذين فرّوا من التراب الجزائري إلى “بلاد الاستعمار” لينعموا هناك بالحقوق والحريات التي حرموا منها في “بلاد الاستقلال”.
نحن إذاً أمام حالة استثنائية غير مسبوقة في العالم بأسره. لم نرَ من قبل نظاما شعبويا على غرار النظام الجزائري يرفض استقبال مواطنه الذي تعرّض إلى الطرد من بلد آخر يفترض أنه بلد معادٍ وخصم. كان من المفروض أن تفتح السلطات الجزائري الحدود وتستقبل المؤثر المذكور بالورود والزغاريد والأعلام الوطنية بسبب ما تعرض إليه من طرد وترحيل، وتحول هذا الحدث إلى مناسبة لتكريم المواطنين الجزائريين الراغبين في العودة إلى بلادهم من بلاد المستعمر السابق أو من غيره من بلدان المهجر الأخرى. ولكن يدرك الكابرانات أن بوعلام ركب الطائرة مرغما وهو يبكي ويتوسل للبقاء على التراب الفرنسي، لأنه يعلم جيدا أن العودة إلى الوطن الأم هي العقاب الحقيقي له ولملايين الجزائريين الذين اختاروا العيش في فرنسا وأوروبا وفي أماكن أخرى من هذا العالم.