أثارت نقاشات وتوصيات المناظرة الوطنية الثانية حول الجهوية المتقدمة ضرورة واستعجالية تفعيل إصلاحات الشق المالي لتطوير الأداء التنموي للجماعات الترابية والجهات، التي يظل بعضها مُقبلا على تنظيم تظاهرات قارية ودولية كبرى.
ودعَم مختصون وباحثون في الشأن الترابي والجبايات المحلية، تحدثت إليهم هسبريس، رهان التنزيل السليم للجهوية المتقدمة، وتحقيق التنمية المنشودة بالتركيز على “تحديات تمويل البرامج الاستثمارية للجهات”، التي ناقشتها إحدى ورشات المناظرة.
وبينما أكدت التوصيات المنبثقة عن “مناظرة طنجة” على مواكبة الجهات والجماعات الترابية في “الاستعمال الناجع لرافعة الاقتراض كآلية لتمويل برامجها الاستثمارية” ورفع الموارد المالية المركزية المحولة إلى الجهات (10 مليارات درهم حاليا)، شرح متابعون لهسبريس كيفية تحقيق التنمية الترابية المنشودة بما يضمن تجويد الأداء المالي للجماعات التي منحها المُشرع حيزا من تحصيل مواردها الجبائية الذاتية.
رافعات التمويل
يونس التايب، المتخصص في الحكامة الترابية وسياسات الإدماج والتنمية المحلية، قال: “في حكم المؤكد أنه بدون الموارد المالية لا يمكن للجهات أن تنجز المشاريع المهيكِلة، التي يتم تسطيرها في وثائق التخطيط الاستراتيجي للتنمية، مشيرا إلى نموذج “برنامج التنمية الجهوي”، قبل أن يضيف “لذلك تم التركيز خلال أشغال المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة على ضرورة رفع الاعتمادات المحوّلة إلى الجهات من طرف السلطات الحكومية، وكذا الانخراط في أشكال تمويل مبتكرة تستند على شراكة حقيقية بين الجهات ومؤسسات تمويل وطنية ودولية، بضمانة الدولة وتتبّع المصالح المختصة في هذا الباب على مستوى وزارتي الداخلية والمالية”.
وتابع قائلا: “بين أيدينا تجارب جيدة خاصة على المستوى الدولي يمكن استلهامُها لإرساء نموذج جديد لتمويل التنمية الجهوية بالاعتماد على رافعات تمويلية مندمجة، فيها الشق الجهوي والوطني والدولي، تَمنح مجالس الجهات إمكانية تدبير التحديات التنموية بأفق استراتيجي متوسط وبعيد المدى”. قبل أن يتابع مستدركا “لكن يجب الانتباه إلى ضرورة الاشتغال، أيضا، بموازاة المجهود المالي، على تقوية قدرة الجهات على التخطيط الاستراتيجي، والاستعمال العقلاني للموارد، وفرض النجاعة في التدبير، ووضع أنظمة للتتبع والتقييم، وفرض النهج التشاركي المدمج للسكان في تشخيص الحاجيات وترتيب الأولويات”. وأبرز أنه “بذلك سيكون للموارد المالية الإضافية التي تتم تعبئتها كامل الأثر على التنمية الجهوية والعدالة المجالية المأمولة”.
وأكد الباحث في الحكامة الترابية أن “مسار تقوية الجهوية المتقدمة يستدعي بالضرورة التقدم في تنزيل اللاتمركز الإداري، وفق مقاربة تشاركية تعتمد الشراكة والتعاون بين الحكومة والفاعلين في الجماعات الترابية والجهات، مع تحمّل الجميع مسؤولية وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والرهان على الكفاءة والاستحقاق، دون إغفال ربط المسؤولية بالمحاسبة، والقدرة على رفع تحديات السنوات القليلة القادمة بما تحمله من مواعيد دولية سيكون المغرب حاضرا فيها بقوة ولاعبًا أساسيا في سياق جيوستراتيجي خاص”.
الاختصاص الجبائي
أوضح جواد لعسري، أستاذ مختص في المالية العامة والتشريع الضريبي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أن “تحقيق تنمية ترابية يقتضي توفير اعتمادات مالية لتمويل النفقات العمومية المحلية، وهي غاية لن تتحقق إلا عبر آلية التمويل الكافي”.
وسجل لعسري أن “المشرّع المغربي كان واعيًا منذ البداية بأهمية الموارد المالية في تحقيق الأهداف المنشودة بشكل جعله يمكّن الجماعات الترابية من موارد مالية مهمة، خاصة الجماعات، من خلال الصلاحيات التي يتمتع بها الآمرون بالصرف على مستوى الجماعة في تصفية وإصدار ومراقبة الرسوم الترابية التي تدخل ضمن اختصاصهم”، مشيرا إلى أنها “موارد جبائية تُدبَّر ترابيا لخلق تنمية مستدامة على الصعيد الترابي، بيد أن التجربة أبانت عن ضعف الجماعات وعجزها عن تنزيل معظم المقتضيات المنظمة للرسوم المحدَثة بقانون 47.06؛ وهو واقع جعلها تبحث عن مصادر تمويل للتغطية عن فشلها في تدبير جباياتها”.
ونبه إلى أن “الاعتبارات الحزبية والسياسية الضيقة، إضافة إلى ضعف التكوين القانوني والجبائي لموظفي ومنتخَبي الجماعات، كلها معطيات حالت دون تحقيق الأهداف المرجوة. بل إن بعض الجماعات (بما في ذلك المدن الكبرى) أصبحت تلجأ إلى النظام الاتفاقي في أداء بعض الرسوم خرقا للنصوص التشريعية”. واعتبر في هذا الصدد أن “نقل الاختصاص الجبائي إلى الدولة، كما فعل المشرع بخصوص الرسم المهني ورسم الخدمات الجماعية والرسم على السكن من أكثر الحلول الواقعية المطروحة”.
وبشأن تفعيل توصيات “مناظرة طنجة”، أبرز أستاذ التشريع الجبائي أن “الاقتراحات والتوصيات يجب أن تكون بشكل موضوعي وعملي بعيدا عن الخطابات العقيمة، التي لن تفيد الجماعات الترابية في تحسين أدائها”، لافتا إلى أنه “لم يتم الكشف عن المكاسب المالية المتخلى عنها جراء عدم تنزيل قانون 47.06 بحذافيره مقارنة بالوضع الحالي، وهي مقاربة ستُعفينا من آلية الاقتراض وربما دعم الدولة”.