في تحول ديموغرافي غير مسبوق، يواجه المغرب انخفاضا ملحوظا في معدل الخصوبة الذي بلغ أقل من طفلين لكل امرأة بحلول عام 2024، متجاوزا بذلك عتبة تعويض الأجيال المحددة عالميا بـ2.1 طفل لكل امرأة، هذا التراجع يعكس تغيرات عميقة في أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية للأسر المغربية، كما يظهر نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى، ومع انخفاض نسبة الأطفال دون سن 15 عاما وارتفاع نسبة السكان فوق 60 عاما، يجد المغرب نفسه أمام معضلة معقدة قد تعيد تشكيل هرم السكان.
تأتي هذه التحولات كنتيجة حتمية لجملة من العوامل المتداخلة التي أسهمت في خفض معدلات الخصوبة على مدار العقد الأخير، بدأ من التغيرات الثقافية والاجتماعية، مرورا بارتفاع مستويات التعليم وتمكين المرأة، وصولا إلى تأثيرات التحضر وتكاليف المعيشة المتزايدة، فهل يشكل هذا التحول فرصة لمعالجة قضايا النمو الاقتصادي والضغوط الاجتماعية، أم أنه ناقوس خطر يستوجب سياسات فورية لتجنب تحديات الشيخوخة ونقص القوى العاملة؟
في هذا السياق اعتبر الخبير الاقتصادي، أمين سامي، أنه قبل الخوض في قراءة وتحليل أسباب انخفاض معدل الخصوبة على المستوى الوطني، وتباين معدلات الخصوبة على مستوى جهات المملكة، وتأثير ذلك على الهرم السكاني، لابد أولا أن نقر أن إحصاء 2024، قام بتوفير معطيات مهمة واستراتيجية سواء من حيث التعداد السكاني، ومعدل النمو، ومعدل التمدن، ومعدل البطالة، ومعدل الإعالة، ما يساهم في تطوير السياسات العمومية، سواء الشمولية، أو السياسات الاستهدافية.
وحسب خبير في التخطيط الاستراتيجي، فإن التطور الديموغرافي المحقق على مدار العقود الثلاثة الماضية، يؤكد ارتفاع عدد السكان من 26.074 مليون نسمة في عام 1994 إلى 36.828 مليون نسمة في عام 2024، مما يعكس نمواً سكانياً متواضعا.
أضاف أن اللافت هو التباطؤ الكبير في معدل النمو السكاني الذي انخفض من 1.38% في 1994 إلى 0.85% في 2024، ويعزو سامي هذا التباطؤ إلى تحولات اجتماعية واقتصادية متعددة، من بينها انخفاض معدلات الخصوبة، وزيادة التحضر، وتحسن مستويات التعليم، بالإضافة إلى تمكين المرأة وتأثير ذلك على قرارات الإنجاب.
وأوضح عضو المعهد العربي للتدريب والبحوث الاحصائية، أن انخفاض معدل النمو السكاني يحمل في طياته مزايا إيجابية تتمثل في تخفيف الضغط على الموارد الاقتصادية والاجتماعية، لكنه يشكل في الوقت ذاته مؤشراً يستدعي الاهتمام، فمن شأن استمرار هذا الاتجاه أن يؤدي إلى تحديات كبيرة في المستقبل، خاصة مع شيخوخة السكان ونقص القوى العاملة.
وأكد سامي أن المعطيات المتعلقة بالإحصاء أشارت إلى انكماش قاعدة الهرم السكاني مع انخفاض نسبة الأطفال دون سن 15 عاماً من 31% في 2004 إلى 26.5% في 2024، وعلى النقيض، ارتفعت نسبة السكان الذين تجاوزوا سن 60 عاماً من 8% إلى 13.8% خلال الفترة نفسها، مما يعكس ارتفاع متوسط العمر المتوقع وتزايد ظاهرة الشيخوخة السكانية.
هذا التغير يعكس انخفاضاً في معدلات الخصوبة، وهو ما يراه المحلل الاقتصادي مرتبطاً بتحسن مستوى التعليم، خاصة لدى النساء، وتأخر سن الزواج، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة المعيشة، خصوصاً في المدن الكبرى، ومع انخفاض عدد الأطفال، يزداد الضغط على أنظمة التقاعد والرعاية الصحية، مما يتطلب سياسات شاملة لمواجهة هذه التحديات، مسجلا أن المغرب بحاجة إلى تعزيز مشاركة الفئات العمرية الأكبر في النشاط الاقتصادي لتخفيف آثار الشيخوخة.
هذا، وأظهرت البيانات المتعلقة بمعدلات الخصوبة تفاوتاً كبيراً بين جهات المملكة، مع تصدر جهة درعة-تافيلالت والداخلة-وادي الذهب معدلات الخصوبة الأعلى بـ2.35 و2.25 طفل لكل امرأة على التوالي، في المقابل، سجلت جهة سوس ماسة معدلاً منخفضاً بلغ 1.86 طفل لكل امرأة، بينما كان المعدل الأدنى في جهة الشرق بـ1.73 طفل لكل امرأة.
وحسب الخبير الاقتصادي فإن هذا التباين يعود إلى عوامل متعددة، فالتحضر وانتشار نمط الحياة الحضرية أثرا بشكل كبير على قرارات الإنجاب، حيث تكتفي المرأة العاملة في المدن الكبرى بعدد أطفال أقل أو تؤجل الإنجاب، كما يلعب التعليم وتمكين المرأة دورا مهما، إذ تميل النساء المتعلمات إلى تأخير الزواج وتفضيل أسر صغيرة الحجم، إلى جانب ذلك، تشكل التكاليف الاقتصادية لتربية الأطفال عاملا رئيسيا في تقليص معدلات الإنجاب، خاصة في المناطق الحضرية الكبرى.
ودعا سامي إلى تبني استراتيجيات وسياسات متوازنة لمعالجة التحديات الديموغرافية، مع التركيز على تحقيق التوازن بين الجهات، ومن أهم السياسات الممكن تبنيها دعم الأسر في المدن الكبرى من خلال منح امتيازات مالية وخدمات رعاية أطفال محسنة لتشجيع الإنجاب، مع ضرورة تحسين التعليم في المناطق الريفية، مع تعزيز أنظمة الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية لمواجهة تحديات الشيخوخة.
وفي ختام تصريحه، شدد أمين سامي على أهمية وضع سياسات تنموية متوازنة بين الجهات لتخفيف الضغط على المدن الكبرى وتشجيع الاستقرار في المناطق ذات الخصوبة المرتفعة، مؤكدا أن مواجهة هذه التحديات تتطلب نهجا مرنا وشاملا يضمن توازنا ديموغرافيا وتنمويا مستداما.