أصبح المغرب في الأعوام الأخيرة ميدانَ تنافسٍ متزايدٍ بين تحقيق المصالح الشخصية وزيادة الصفقات والمكاسب المالية وتولي مسؤوليات معينة في حكومة لا تتبع معايير انضباط واضحة. وظهرت فصيلة جديدة في دائرة عزيز أخنوش ممن يمكن وصفهم ب”أثرياء المرحلة” على غرار أثرياء الأزمات والحروب. ويتزايد عدد الملاحقات القانونية والمحاكمات القضائية لأعضاء في الأحزاب الثلاثة التي تشملها حكومته.
واتخدت المحكمة الدستورية قرارات بتجريد خمسة برلمانيين من عضويتهم في مجلس النواب، بعد صدور أحكام قضائية نهائية تدينهم في قضايا مختلفة بين ديسمبر 2023 ويناير 2024. وقرر مجلس النواب إحالة ملفات أربعة نواب برلمانيين آخرين على المحكمة الدستورية.
يبدو أن حكومة أخنوش تنتج حالةً مَرَضِيَةً مغربيةً سيئةً لما يُولّده زواج المال والسلطة. وهو انحرافٌ شاردٌ عن خطّ الحِكامة السياسية Political Governance والفضيلة السياسية Political Morality التي بلورها حكماءُ الإغريق قديما في تركيب أضلاع الديمقراطية قبل ستّة وعشرين قرنا، وعزّزها فلاسفةُ التنوير بضوابط الحداثة السياسية في القرن الثامن عشر. وظلّت الحِكامة والفضيلة السياسية تتحرّكان داخل مثلّث تنافسٍ محتدمٍ يجمع القيمَ السياسية وبقية أخواتها من أخلاقيات الأهلية المعرفية والكفاءة العملية من ناحية، ونفوذَ المال والاقتصاد والمصلحة وبقيةَ الأنساق الميكيافيلية من ناحية أخرى. وقد تمسّك أفلاطون مثلا بأن هدف الحكومة هو تعزيز التميز الإنساني وتكريس الفضيلة الإنسانية.
على هدي هذا الجدل اللامتناهي بين الفضيلة والحكامة والمال في توجيه السياسات العامة، لا تزال الحداثةُ السياسية المعاصرة تجاري التنافس ذاته بين الديمقراطية (كنايةً عن حكم الشعب) والتيموقراطية (في إشارة إلى نفوذ أصحاب المال). ويعرّف أرسطو التيموقراطية (timocracy) في كتابه “السياسة” بأنها دولة لا تجوز فيها المشاركة في الحكومة إلّا لأصحاب الأملاك. وتقضي الأشكال الأكثر تقدمًا من التيموقراطية بأن تُستمَدَّ السلطة بالكامل من الثروة، دون أي اعتبار للمسؤولية الاجتماعية أو المدنية، وتتحوّل في شكلها وتصبح حكم الأثرياء (plutocracy) عندما يهمين أصحاب المال على شؤون الدولة.
كان المشرّع والفيلسوف سولون Solon (630-560 قبل الميلاد) أوّل من بلور أفكارَ التيموقراطية باعتبارها أقليةً متدرجةً في دستوره السولوني لأثينا أوائل القرن السادس قبل الميلاد. فكان أول من هندس نسقًا عمليًّا للتيموقراطية، التي تم تنفيذها عمدًا بأن خصّص الحقوق السياسية والمسؤولية الاقتصادية تبعًا لعضوية واحدة من أربع طبقات من السكان.
يصف أفلاطون في المجلد الثامن من كتاب “الجمهورية” خمسة من أنظمة الحكم، ويعتبر أربعة منها غير عادلة، بل وصنف النظام التيموقراطي بأنه نظام “ظالم” نظرا لأنّ الطبقة الأرستقراطية “تنحط إلى التيموقراطية عندما يتضمن الجيل القادم من الأوصياء والمساعدين، بسبب سوء التقدير من جانب الطبقة المحكوم عليها، أشخاصًا ذوي طبيعة أدنى، هم من ذوي النفوس المصنوعة من الحديد أو البرونز، على عكس الأوصياء والمساعدين المثاليين الذين تكون أرواحهم من ذهب وفضة.” وتنطوي الأنظمة الظّالمة في أعمال أفلاطون على أنساق الحكم التي تؤدّي إلى الفوضى، وفي النهاية إلى الفساد.
تتزايد مؤشرات الاحتكار والانتهازية في تحقيق المكاسب المالية في حقبة حكومة أخنوش. ووفقا لمؤشر أسعار الوقود العالمي Global Petrol Prices ، بلغ سعر اللتر الواحد من الوقود يوم 16 ديسمبر 2024، دولارا و31 سنتا في المغرب، و0.88 في سوريا، و0.79 في تونس، و0.71 في لبنان، و0.70 في السودان، و0.68 في الإمارات، و0.64 في العراق، و0.62 في عُمان، و0.43 في الجزائر، و0.33 في مصر، و031 في ليبيا.
في هذه الحقبة التي تشهد زخمًا في الفعل الاجتماعي وسياسات الاحتجاج من قبل المواطنين في عدة مجالات، ينبغي ألّا يقلل المرء من أهمية تقلبات مؤشرات الثقة ورأس المال الاجتماعي في تحليل الحالة المغربية، حيث لا يكون التحليل الجزئي أو الكلي وحده كافيا. ويتنافس الأفراد وجماعات النشطاء والمجتمع المدني المحلي في انتقاد الاحتكار التي تكرّسه الطبقة السياسية الحالية، ومن يسمّون “خدام الدولة”، في إعادة إنتاج علاقات القوّة التّقليدية.
تبعا لهذه المفارقة، يتّسع مدى عدم الثّقة في المؤسّسات السياسية في المغرب حسب نتائج استطلاع عام أجراه المعهد المغربي للتحليل السياسي (MIPA) شمل 2000 مشارك بين 23 نوفمبر 2022 و 23 فبراير 2023. وأظهر التقرير “نتائج صادمةً وأثبت حدوث تغيير في المواقف الاجتماعية والسياسية للمواطنين.” وأعرب معظم المغاربة بنسبة 66 بالمئة عن عدم رضاهم عن التوجه العام للمغرب. أما بالنسبة لنتائج خطة الحكومة للتنمية الاقتصادية، فقد أعرب 28 بالمئة فقط من المشاركين عن رضاهم مقابل 50 في بالمئة في عام 2022. وشددت أغلبية المغاربة على وجود “تحديات اقتصادية مثل ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الأجور، وارتفاع التضخم، واتساع فجوة الثروة.”
يهدف مؤشّر بي تي أي BTI إلى تحديد الاستراتيجيات النّاجحة لتوجيه التغيير، هو مؤسّسة أبحاث دولية يتعاون فيها قرابة 300 خبير من الجامعات الرائدة ومراكز الفكر في شتّى أنحاء العالم، وتقوم بتحليل ومقارنة عمليّات التحول نحو الديمقراطية واقتصاد السوق الشامل في 137 من دول العالم. ويضع تقرير هذا المؤشر لعام 2024 المغرب في المرتبة 106 من أصل 137 من حيث التحوّل السياسي، والمرتبة 60 من أصل 137 من حيث التحوّل الاقتصادي، والمرتبة 71 من أصل 137 من حيث مؤشر الحِكامة. ويضيف المؤشّر أنّ “الاحتجاجات الاجتماعية في المغرب تمثّل مؤشرا على افتقار الحكومة إلى الشرعية، وأن المواطنين لا يوافقون على تواطؤ قطاع الأعمال والحكومة.”
يخلص مؤشر بي تي أي BTI إلى وجود قرينة بين تعثّرات الأداء لدى حكومة أخنوش وافتقارها إلى المصداقية في أعين جل المغاربة. ويعتدّ بأنّ “استمرار اندلاع الاحتجاجات للتعبير عن المخاوف بشأن الارتفاع الكبير في أسعار السلع والموادّ الأساسية، وإدانة القمع وتواطؤ رجال الأعمال والسياسة. واجهت الحكومة الحالية احتجاجات وحملات انتقادية على وسائل التواصل الاجتماعي منذ الأسابيع الأولى لها في السلطة، مما يشير إلى افتقارها إلى المصداقية والشرعية.”
في الوقت ذاته، تراجع المغرب في التصنيف العالمي للفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، التي تصف الفساد بأنه “تهديد لاستقرار” البلاد. ويأتي المغرب في المرتبة 97 عالميًا في تقرير الشفافية الدولية لعام 2023 حول المستويات الملحوظة للفساد في القطاع العام في 180 دولة، بتراجع ثلاثة مرتبات عن عام 2022 و24 مرتبة في الأعوام الخمسة الأخيرة. ويخلص تقرير وزارة الخارجية الأمريكية بعنوان 2024 Investment Climate Statements: Morocco “بيانات مناخ الاستثمار لعام 2024: المغرب” إلى أنّ “بحلول عام 2024، صادق المغرب على 72 معاهدة استثمارية لتعزيز وحماية الاستثمارات و62 اتفاقية اقتصادية، بما فيها معاهدات مع الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، والتي تهدف إلى القضاء على الضريبة المزدوجة على الدخل أو المكاسب. ويمثل المغرب البلد الوحيد في القارة الأفريقية الذي لديه اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، والتي تلغي التعريفات الجمركية على أكثر من 95 في المائة من السلع الاستهلاكية والصناعية المؤهلة… غير أنّ البيروقراطية الحكومية غير الفعّالة، والفساد، وبطء وتيرة الإصلاح التنظيمي يظلّون من بين التحديات التي تواجه المغرب. وبالإضافة إلى هذه القضايا البنيوية، تفتقر حكومة المغرب إلى عملية فحص الاستثمارات في الصناعات الحيوية مثل الاتصالات، والمعادن الأساسية والأتربة النادرة، والطاقة المتجددة.”
كلّما استمرّ تعثّر الأداء الحكومي لفريق أخنوش وترهّل الطبقة السياسية الحالية داخل الحكومة والأحزاب، يزداد تركيز الأنظار في الداخل والخارج على موقف الملكية وخياراتها بين إبقاء الوضع على ما هو عليه أو إدخال تغييرات جذرية للاصلاح الشامل. وثمة تهديدٌ قائمٌ في النيل من لحمة الارتباط بين الملكية والشعب، وهي لحمة تنطوي على حقيقة التماسك الاجتماعي Social Cohesion كما تُفسّرها شتى العلوم الاجتماعية. على سبيل المثال، ساهمت فكرة التماسك بين الشعب والحكم في تشكيل مفهوم العصبية عند ابن خلدون (1332-1406)، وديناميات الديمقراطية عند ألكسيس دو توكفيل (1805-1859)، والمفهوم الميكانيكي للتضامن العضوي عند إميل دوركهايم (1858-1917)، والسلطة القانونية العقلانية والشرعية عند ماكس فيبر (1864-1920)، ورأس المال الاجتماعي عند بيير بورديو (1930-2002)، والتقاليد المدنية عند روبرت بوتنام (1941-) وغيرها.
يقول المجلس العالمي للتّجديد السياسيGlobal Council for Political Renewal ، وهو مؤسّسة دولية غير حكومية تتوخّى تحقيق التّعاون بين ممارسي السّياسة على جميع المستويات الحكومية والبرلمانية والدولية في شتّى أنحاء العالم لتكريس مستوى عالٍ من الأخلاق والخطاب المدني في الحياة السياسية، يقول إنّ “تحقيق سياسةٍ أفضلَ وعالمٍ أكثر إشراقَا أمرٌ ممكنٌ. لكنّ التّغييرَ يبدأ من الدّاخل.”
هو الآن عهدٌ جديدٌ قديمٌ للملكية عند مفترق الطرق بين التقليدانية والسلطوية من جهة ونية الإصلاح والبناء الحداثي من جهة أخرى. لكن هناك خشية من أن يضعف أو يفقد البوصلة إذا غاب التّوازن المطلوب بين الشوكة والعصبية والجند والمال بحسب العلامة عبد الرحمن ابن خلدون. عهدٌ جديدٌ قديمٌ يدخل عامه السادس والعشرين بغير العنفوان ونبض القلوب التي خفقت لبهجة السنوات الأولى. عهدٌ جديدٌ متساهلٌ مع مجازفات الخطّائين، وتملّق المطبّعين، وجشع القوّامين من الأقوياء، ولهفة الطمّاعين الأثرياء في زواج المال والسلطة.كما جاء في دراسة سابقة لي بعنوان: “سبع مفارقات في العقل السياسي المغربي” (منشورة في فبراير 2020).