دورنا الحقوقي والسياسي هو الدفاع عن قناعتنا الشخصية باستقلال وحرية وموضوعية دون المساس بالمشترك الوطني، أو المشترك التعاقدي، لأن العقد شريعة المتعاقدين؛ ودون التعسف في استعمال الحق وهامش الحرية المتاحين قانونيا (إن كان لهما محل)، ودون الشطط في استعمال السلطة والصلاحيات التي يخولها لنا منصبنا ومسؤوليتنا القانونية على رأس المؤسسة أو الهيئة التي نمثل، وبالتالي فإذا كان الموقف منسجما مع خيار واستراتيجية الإطار الذي نمثل فهو تعبير مؤسستي، وجبت مجادلته نقديا ومحاججته وثائقيا، وإذا كان شخصيا وجبت مواجهته أيضا بالحجة ولكن دون المس بالهيئة التي يرأسها أو بأسرته أو بجميع الأسر الحقوقية والسياسية والمدنية التي ينتمي إليها؛ ومهما كان الموقف أو الرأي، فلا حق لنا في مساءلته قانونيا أو المطالبة بمحاكمته قضائيا؛ خاصة أنه في إطار أن الخطأ لا يصلحه الخطأ؛ لا يعقل أن ننتحل صفة المدعي العام أو ننوب عن النيابة العامة في القيام بمهام المتابعة أو تحريك الدعوى العمومية تجاه أي مواطن، فلا حق لنا ولا صفة لنا حتى في الوشاية أو التكفير أو التخوين؛ اللهم إذا تعلق الأمر بالتبليغ عن جناية مضرة بالوطن والمواطنين، وهذا يتطلب كثيرًا من التعقل والتشاور وعدم التسرع، فلكل حسب موقعه وعلاقته درجات وحجم وجزاء عن مدى مسؤوليته، ولكل حادث حديث؛ وفي قضيتنا الوطنية لا يسعنا إلا التذكير بأن أقاليمنا الجنوبية بالصحراء المغربية؛ مغربية حقا؛ بغض النظر عن طبيعة النظام وتميز مقاربة الدولة المغربية ومنهجية تدبير المسألة والعلاقة بالساكنة منذ ما قبل مؤتمر برلين وكذا مؤتمر الحزيرة الخضراء سنة 1906؛ وعقد الحماية الفرنسية 30 مارس 1912 ومعاهدة الحماية الإسبانية لسابع أبريل، ووقائع الاستعمار الفعلي للأراضي المغربية من طنجة إلى موريتانيا جنوبا ومن ساحل المحيط الأطلسي إلى الصحراء الشرقية؛ وإن ما تراكم وما صاحب هذا التاريخ من مقاومات وحركة تحرير، المسلحة منها والسياسية والفكرية؛ بقيادات محلية ووطنية، تجسدت في أعضاء المقاومة وجيش التحرير المغربي والذي تعرض للتصفية والحل بعد استقلال الشمال والوسط المغربيين والتراب الذي صار موريتانيا لاحقا، وكذا الحركة الوطنية، والتي واصل مناضلوها النضال من أجل استكمال تحرير بقية الثغور وعلى الخصوص ما كان يسمى بالصحراء الإسبانية، وقبلها مدينتي سيدي إيفني وطرفاية. وللتذكير؛ فالمغرب رسميا طرح القضية لدى اللجنة الرابعة المكلفة بتصفية الاستعمار سنة 1963؛ ورغم اختلاف مقاربة النظام المغربي، على عهد سنوات الرصاص؛ مع مقاربة الحركة التقدمية المغربية؛ فإن قضية الصحراء المغربية ظلت قضية إجماع وطني، اللهم ما شذ عن السياق بسبب موقف اتجاه داخل الحركة الماركسية اللينينية، والتي دافعت عن “حق ساكنة الصحراء في تقرير المصير”، وهو موقف تأسس على خلفية مذهبية، تبناه الجناح “المسلح” داخل الحركة الاتحادية ولكن من زاوية اعتبار أن تشكل الصحراء بؤرة ثورية وقاعدة للانطلاق من أجل استكمال تحرير الوطن المغربي كاملا ودمقرطة السلطة والحكم! غير أن هذه الصيغة لتفعيل مطلب الحق في تقرير المصير، لم تتجاوز خطاب النوايا وانقضت الفكرة في مهدها بإجهاض انتفاضة مارس 1973 وقبله حظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب واعتقال قياداته وأطره المنبثقين عن المؤتمر 15، إلى أن صدر قرار محكمة العدل الدولية، فحصلت ترتيبات وتأثيث ومبادرات وطنية وإقليمية، بدأت بإبرام اتفاقية مدريد 1975، وانسحاب المستعمر الإسباني من الصحراء، ومنذئذ شرع في التدويل التدريجي للقضية، وذلك على إثر انسحاب موريتانيا من إقليم وادي الذهب، ثم حلول المغرب محلها؛ وتوج التدويل رسميا بإقرار النظام المغربي وقبوله بإجراء استفتاء في المنطقة، وهو موقف لم ينل موافقة قيادة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وكان سببا في اعتقال المجموعة المؤثرة داخل المكتب السياسي، وعلى الخصوص المقاومين والمؤسسين محمد منصور والحبيب الفرقاني، إضافة إلى عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازغي. ومنذ التدويل دخل تعريف تقرير المصير حيز محاولة التفعيل ولكن هذه المرة وفق مفهوم وقاموس القانون الدولي، ودون التطويل في بسط الوقائع والتطورات؛ توافق القرار الدولي حول ضرورة التوصل إلى الحل السياسي الذي “يمكن” أن يكون مقترح الحكم الذاتي مدخلا له؛ وبالمناسبة فقد تطور موقف الأحزاب الديموقراطية وتكيف مع التحولات الحاصلة نفسها؛ وكذلك المنظمات المدنية والحقوقية والطلابية، بما فيها مواقف الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي لم تتجاوز سقف المطالبة “بإيجاد حل ديموقراطي”؛ فرغم هيمنة تيار حزبي له موقف مخالف على القيادة واحتكار “بالانتخاب طبعا” وعلى الخريطة وحجم “الحلفاء” ومكونات الجمعية؛ فلم يسبق أن صدر موقف صريح ورسمي يدعو إلى تبني موقف تقرير مصير هكذا “الشعب الصحراوي”. ما عدا بعض التصريحات والشعارات التي “يصدح” بها بعض المختلفين، وعلى الخصوص بعض المنحدرين من الأقاليم الصحراوية والذين كانوا من ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان؛ على عهد سنوات الرصاص؛ والذين قبلوا مقاربة “الإنصاف والمصالحة ” في حدود الحقيقة والاعتراف.
من هنا فإن أي تقييم لتصريحات بعض الحقوقيين ينبغي أن يتم استنادا لهذه المعطيات دون السقوط في منطق الوشاية والتخوين أو التكفير باسم الوطنية؛ فللدولة وسائلها القانونية، خاصة إذا علمنا بأن العقل الأمني درج على تدبير القضية الوطنية باستحضار كافة الأبعاد الحقوقية والقانونية بما فيها وضعية “الصحراويين” الذين اختاروا التفكير في تقرير المصير بحلم “الانفصال” مع فتح إمكانية الحوار وضمان شروط التعايش ضمن خيار “الاتصال”؛ بدليل أن العديد من الحقوقيين والحقوقيات من أصول صحراوية يدافعون عن موقفهم سلميا وحضاريا وديموقراطيا؛ وقد يتضامن معهم بعض الحقوقيين، صراحة أو ضمنا؛ هذا لا يهم؛ لأن المهم هو نقد العنف ورفضه وإدانته، مع ترك الصلاحية للمؤسسات القانونية والقضائية أن تسائل وتحاكم طبقا للقانون إن كان للمخالفة والجنوح محل، ودورنا لن يتجاوز التنبيه والمحاسبة النقدية؛ لأن خصوم ما تراكم من مكتسبات وحقوق يتربصون، وقد يتذرعون بأي سبب من أجل الإجهاز على المنجز على علته وحجمه؛ مع التأكيد على ضرورة احترام الالتزامات والتعاقدات؛ باعتبار أن العقد بمثابة قانون، مع فصل الأدوار والقبعات، وبالتمييز بين الفعل الحقوقي وكذا وسائله؛ وبين العمل الحزبي ومقامه؛ وبين الحقوقي والحزبي مساحة كبيرة وشاسعة تتفاعل فيها المقاربتان؛ السياسية مع الأمنية، كما تتصارع الحرية مع النظام العام؛ وفي ذلك فليتنافس المواطنون، مع الدولة ومؤسساتها، عبر تعبيراتهم الحقوقية والحزبية، مع احترام الصلاحيات والشرط الذاتي وتقدير الشرط الموضوعي بما فيه المشاعر والحساسيات والمشترك الوطني من حقوق والتزامات ولما السياقات وموقع المسؤولية وموازين القوة والقانون حتى. فليس من حقنا تقديس مواقفنا مقابل تبخيس قضايانا المصيرية، وبنفس القدر لا يعقل أن نفرض أمرا واقعا غير مفكر فيه تشاركيا وبصفة عقلانية، وليتحمل كل منا مسؤوليته التاريخية ولنتفادى جميعا تكرار الأعطاب والأخطاء، وقبل أن نطالب بدمقرطة الحلول علينا أن نكون ديموقراطيين مع ذواتنا ومحيطنا بالتأهيل والإشراك!
مصطفى المنوزي