يكاد يجمع المراقبون والعارفون والمتابعون على ان ياسر عرفات – رحمه الله – قائدٌ قد يُخْتَلَفُ معه على اعتباره إنسان يخطئ ويصيب، إلا ان أحدا لا يختلف عليه.. فهو أحد أبرز قادة الشعب الفلسطيني، وواحد من أبرز المؤسسين لنهضته وثورته المعاصرة، ومن أكثر الملهِمين لأجياله.
من هذا المنطلق سأسطر هذه الكلمات في الذكرى العشرين لاستشهاده.. أنا واع تماما لاختلاف الناس في عرفات، الا انني ازعم أنني لست ممن يرفعون من مقامات الرجال حتى كأنهم الأنبياء المعصومون والملائكة المقربون، ولا انا ممن يحطون من أقدارهم كأنهم الهباء المنثور والعصف المأكول..
لعرفات مادحون إلى حد التقديس، وآخرون ناقدون إلى حد التبخيس، وكلاهم على خطأ كبير. غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة ياسر عرفات البشرية بهدف الاستفادة منها لبناء الحاضر والمستقبل، أمر فيه من الاجحاف بحق هذه التجربة الفريدة وحق صاحبها مما لا ينبغي ان يكون. حديثي حول بعض المحطات المضيئة في حياة ياسر عرفات – رحمه الله – في ذكرى استشهاده، هي جزء من الحقيقة التي عايشتها بنفسي، وإلا فالمقام لا يتسع للحديث الموسوعي عن سيرته وهو الذي ملأ السمع والبصر لعقود، انهاها بهذه النهاية التي تليق بالأبطال الذين خلدهم التاريخ.
اهتمام الحركة الإسلامية وقائدها فضيلة الشيخ عبدالله نمر درويش – رحمه الله – بالقضية الفلسطينية كقضية محورية، بدأ مبكرا جدا، حيث شَكَّلَ الانشغال بها المكوِّنَ الأهم من مكونات الوعي الفردي والجماعي للفلسطيني أينما كان على المستويين الفردي والجماعي وعلى الصعيدين الديني والوطني. لذلك كان من الطبيعي أن تحظى فلسطين من حيث هي وطن وشعب ومقدسات، ماضي وحاضر ومستقبل، وفوق كل ذلك مسألة دين وعقيدة وتاريخ أمة، بحصة الأسد في الدراسات والنقاشات التي كانت تدور في أوساط الحركة الإسلامية منذ الانطلاقة عام 1971م وحتى الآن.
لم يكن غريبا – والحال على ما وصفت – ان ترتبط الحركة الإسلامية وقياداتها بعلاقات مميزة مع كل أطياف الشعب الفلسطيني وقياداته بما في ذلك ياسر عرفات – رحمه الله – خصوصا بعد عودته الى فلسطيني على أثر توقيع اتفاق أوسلو، حيث كان اول لقاء لوفدها برئاسة الشيخ عبدالله نمر درويش بعرفات في مكتبه بقطاع غزة بعد فترة قصيرة من عودته في العام 1993، حضره مع الشيخ أغلب قيادات الحركة في حينه. كان لقاء لا يمكن للذاكرة ان تنساه أبدا من حيث حميميته وصراحته ونتائجه التي أسست للعلاقة الإيجابية بين الطرفين خدمة لفلسطين وطنا وشعبا ومقدسات. لم نلتق بعرفات شخصيا قبل ذلك اللقاء، إلا اننا خرجنا من عنده بعد لقاء استمر لأكثر من ساعتين وكأننا نعرفه منذ امد بعيد.. هكذا كان انطباعنا، وهكذا كان انطباع كل من التقى به لأول مرة.. لا بد ان تخرج من عنده بشعور كأنك تعرفه من سنين.. لم يأت ذلك من فراغ، لكنها شخصيته المميزة وحديثة (الفلاحي) البسيط الذي يدخل القلب فيؤثر فيه، وثقته القوية بالله ثم في حق شعبه ان يعيش حرا مستقلا كباقي شعوب الأرض، إضافة الى البريق الذي ينبعث من عينيه حتى وهو يتحدث في أكثر فصول القضية الفلسطينية مأساوية.
اتاحت هذه العلاقة الخاصة التي ربطت فضيلة الشيخ المؤسس بقيادات الشعب الفلسطيني عموما وبعرفات على وجه الخصوص، والاحترام الذي حظي به من الجميع، لعب دور في خدمة القضية الفلسطينية في أكثر من منعطف خطير.. فنشظ الشيخ عبدالله نمر درويش الذي وصل الليل بالنهار لتوحيد الصفوف، إلى تصفية الأجواء، وحل الصراعات بين الفصائل والتنظيمات، ونزع فتيل الكثير من الأزمات التي كادت تَهُدُّ القضية وتهدم الخيمة.. لذلك أحبته كل الفصائل، كما أحبه كل العلماء والقادة.. تشهد بصولاته وجولاته غزةُ هاشم، وجنينُ ونابلس ورام الله والخليل وبيت لحم، كما تشهد له عمان والقاهرة..
واحدة من تلك الاحداث التي لن ننساها كانت مذبحة مسجد فلسطين بتاريخ 18.11.1994، حيث دعت حماس لمسيرة سلمية بعد صلاة الجمعة من مسجد فلسطين على أثر الإجراءات القمعية التي اتخذتها السلطة الفلسطينية ضد الجهاد الإسلامي بسبب عمليه قام بها احد عناصرها ضد مستوطنة نتساريم بالقطاع، الامر الذي اعتبرته السلطة إحراجا لها امام إسرائيل والمجتمع الدولي.. قبل أن يسلم المصلون التسليمة الثانية فتحت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية نيرانها باتجاه المصلين مما أدى لمقتل سبعة عشر مصلياً وإصابة العشرات، وامتدت المواجهات بعدها لعدة مناطق.. ما لا يعرفه الكثيرون انه وفي الوقت التي كانت الأوضاع تغلي في قطاع غزة على أثر المجزرة البشعة، وفي وقت كان فيها القطاع على فوهة بركان، كان الشيخ عبد الله نمر درويش الساعة الواحدة فجرا جالسا مع ياسر عرفات في غزة يحاول وأد الفتنة، ومما قاله لعرفات بعد جولات مكوكية بين الاطراف: ” انت يا سيادة الرئيس، لِمّ كلابك، واما حماس فخليهم علي”… بعد ذلك انتقل الشيخ للقاء قادة حماس، وكان احمد بحر اكثرهم تشددا… فطلب الشيخ من الجميع الخروج من الغرفة، وبقي وحيدا مع احمد بحر…. بعد نصف ساعة خرج الاثنان من الغرفة، وكان احمد بحر واضعا يده على كتف الشيخ، ويقول له: “ما بصير إلا إللي بدك إياه يا شيخ …”.. كان لجهود الشيخ دور كبير في وأد تلك الفتنة حينها.
استمر هذا الدور للحركة الاسلامية عموما ولفضيلة الشيخ المؤسس خصوصا حتى آخر لحظة في حياته رحمه الله.. من أسباب نجاح الحركة وزعيمها في لعب هذا الدور، قدرتها الفائقة على الفصل بين الاجتهادات المختلفة والتي قد تضعنا على النقيض أحيانا من السلطة الفلسطينية او حماس وغيرها من الفصائل، وبين حرصها على جمع شمل الشعب الفلسطيني على المشتركات وفي صلبها الوحدة الوطنية بهدف كنس الاحتلال وتحقيق الاستقلال.
(1)
الاحداث التي يمكن ان تطفو على سطح الذاكرة في مثل هذه المناسبة كثيرة ، إلا أنني لن انسى ابدا المشهد الذي ضم الشهيدين أحمد ياسين الذي اغتالته إسرائيل بصواريخ ال- ( هيل فاير ) في غزة وهو خارج من صلاة الفجر وياسر عرفات، الذي حاصرته إسرائيل في المقاطعة المدمرة حتى الموت، وذلك بعد افراج الاحتلال الإسرائيلي عن الشيخ احمد ياسين على اثر محاولة اغتيال خالد مشعل – الرئيس السابق للمكتب السياسي لحماس – في الأردن .. لقد كان للقاء الرجلين والعاطفة التي غمرتهما، اثرها على نفسي شخصيا وانا الذي عرفت الرجلين عن قرب، مع اعترافي بان معرفتي بالشيخ احمد ياسين – رحمه الله – أطول عمرا واقدم زمنا واكثر عمقا لأسباب لا تخفى على احد..
لذلك الحديث عن الشهيد ياسر عرفات بالنسبة لي، لا علاقة له بالانتماء التنظيمي الذي اعتز به، فهو حديث نابع من القلب والعقل أحاول من خلاله الغوص في تفاصيل مشهد سيظل يشغل الراي العام الى ما شاء الله ..
الحديث عن (ابو عمار) في هذا الوقت بالذات يحمل ابعادا غارقة في الدم، ما كان منها متعلقا بالشأن الفلسطيني التي تسير به قيادته نحو المجهول، وما كان منها متعلقا بالوضع الإقليمي الذي يشهد انهيارا للعالم العربي بسبب تغول أنظمة الفساد والاستبداد الدموية التي تحكم اكثر الدول العربية وعلى رأسها سوريا ومصر واغلب دول الخليج وغيرها، والتي بدورها تجر وطننا العربي نحو المزيد من التشرذم والضعف والارتهان الخارجي، وما كان منها متعلقا بالمجتمع الدولي الذي ما زال يبيع للشعب الفلسطيني كلاما ووعودا فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع، في الوقت الذي يرى فيه الاحتلال الإسرائيلي يغتال بشكل ممنهج الحُلُمَ الفلسطيني في الاستقلال وكنس الاحتلال، ويمعن في الولوغ في دم الشعب الفلسطيني حتى الثمالة، وما يحدث في قطاع من حرب إبادة تشنها إسرائيل على 2.4 مليون من اهله امام سمع وبشر العالمين العربي والإسلامي والمجتمع الدولي، أصدق شاهد على هذا الواقع المر ..
ما من شك في ان الرجل عاش حياة غاية في التعقيد، وقاد الثورة الفلسطينية في اكثر من منعطف تاريخي، فجاءت قراراته وسياساته عبر عقود قيادته سببا في انفجار نقاشات داخل صفوف الشعب الفلسطيني، افرزت محاور وخلقت بؤر توتر بقيت مرافقة له حتى آخر لحظة في حياته، وأخرى خارجية تراوحت بين الاعجاب والاحترام على مستوى العالم، وبين الكيد والتآمر عليه حتى انه لم يجد من الزعماء عربا وعجما من يقف الى جانبه وهو محاصر في غرفة صغيرة في المقاطعة (مقر الحكم) المدمرة في رام الله، تحيط به دبابات الاحتلال الإسرائيلي وطائراته المروحية من كل جانب، تتحين الفرصة للانقضاض عليه، وتحقيق حلم ( شارون ) في حينه ( بنقله الى العالم الآخر )…
في السنوات العشرين التي انقضت منذ استشهاد عرفات، صدر عدد كبير من التحقيقات الصحفية والبحثية المتخصصة حول ملابسات وفاته، منها ما اكد وفاته بفعل مادة ( البولونيوم ) القاتلة، ومنها ما كشف عنه اللواء توفيق الطيراوي رئيس لجنة التحقيق الفلسطينية بظروف وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مساء الثلاثاء 10.11.2015 عن أن لجنة التحقيق توصلت إلى الشخص الذي نفذ اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات، ولم يبق سوى لغز صغير فقط قد يحتاج إلى وقت لكشف بقية تفاصيل عملية الاغتيال، رافضا إعطاء المزيد من المعلومات حول المشتبه به وحول سير التحقيق .
مضى ياسر عرفات الى ربه سبحانه وتعالى، فتحققت على المستوى الشخصي أمنيته التي تحدى بها العالم .. أعني تلك الكلمات التي ليس كمثلها ما يمكن أن يلخص حياة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات – رحمه الله – وهو محاصر في المقاطعة أثناء حرب (الدرع الواقي) الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة عام 2002.. تلك هي كلماته التي رددها من غرفته المظلمة إلا من أنوار شموع في المقاطعة في تلك اللحظات الملحمية: ( يريدونني أسيرا أو طريدا أو قتيلا ، وأنا أقول ، بل شهيد .. شهيد .. شهيد … ) …
كم كشفت وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات رحمه الله – منذ وفاته وحتى الآن – من الوجوه الشائهة الكالحة، وكم عرّت من سياسات زائفة بائسة! كم يخشى من مواقفه وهو تحت اطباق التراب زعماء وزعماء، أحرجهم الى حدّ الاسطورة في شموخه وصموده وثباته على المبادىء مهما كلفه ذلك من ثمن.. أحرجهم في حياته لأنهم كانوا إلى جانبه أقزاما هزيلة، وإن حملت هياكلهم اجسام الفيلة.. فهم أجساد، مجرد أجساد، تقتات على دماء الشعوب.. مجرد كُتل من النزوات والشهوات المرتمية في أحضان الدنيا الزائفة بلا أحلام، وبلا طموح.. تعيش في مستنقعات الدنيا وإن سكنوا القصور وتحركوا بسيارات الليموزين …
(2)
لم يكن عرفات – رحمه الله – من هذا الطراز من الزعماء، وما كان له أن يكون كذلك.. لأنه رمز لقضية فلسطين الوطن السليب المهدد بالابتلاع النهائي والتهويد الكامل، والشعب الذي يعيش الأغلب الساحق من ابنائه وبناته لاجئين في مختلف البلاد والاصقاع، يغرقون يوما بعد يوم في جوف الواقع المجهول والمستقبل المجهول وسط زحام وأزقة المخيمات واوضاعها المزرية.. يحملون همّ (الخيمة) الاولى فيما رمزت اليه من ضياع وطن وارض ومقدسات، وهموم اجيال ما زالت تنتظر لحظة العودة على أحرّ من الجمر في مواجهة العواصف العاتية من النكران العربي والاسلامي والعالمي، وتخلي المجتمع الدولي، الا من فتات لا يسمن ولا يغني من جوع.. مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة لتخدير المشاعر، وتزييف الحاضر والمستقبل ارضاءً لنزعات العدوان الامريكي-الإسرائيلي-الغربي الطاغي والمنفلت …
ما كان لعرفات أن يكون من ذاك الطراز المزيف من الزعماء، لأنه يقود شعبا كثيرا ما من أطلق عليه صفة ” الجبارين”، في اشارة الى ذات الشعب الفلسطيني الذي وقف امام الغزو اليهودي الاول..
كان عرفات واعيا تماما لهذه الثنائية وابعادها ورأي الاسلام فيها، الا انه تعمّد استعمال هذه الصفة الدالة على الصلابة والقدرة على الصمود والثبات وتحمل الأعباء مهما ثقلت، خصوصا وقد مزجت بتكريم الاسلام لهذا الشعب، وتعظيم الدين لهذه الارض التي جعلها الله سبحانه ارضا مباركة، وكتب ان تظل ارض رباط، ومستقر الطائفة المنصورة الى يوم القيامة..
(3)
مهما اختلف الناس مع عرفات وهو حي في كثير من القضايا، فلا أرى أن أحدا يختلف في أنّ لرحيله المفاجئ أثره الكبير على كل الأصعدة.. فكما أحرج الدول والزعماء في حياته، وحير الافكار والعقول في صموده وعناده واصراره على تحقيق الآمال الفلسطينية دون تفريط في اي من الثوابت الفلسطينية، فقد كشف بالقوة ذاتها عن حقيقة الموقف العربي والعالمي حيال مستقبل القضية الفلسطينية.. لم أعد اخرج من حساباتي امكانية ان كثيرا من زعماء العرب والعالم كانوا يتمنون موت هذا الزعيم في حينه، حتى يتخلصوا من هذا الثقل الاعتباري الذي شكله، الى درجة يخاف معها رؤساء العالم من ذكر اسمه، ناهيك عن أن يضع الواحد منهم ممن يزورون المقاطعة، إكليلا من الزهور على قبر عرفات أثناء زيارتهم الكثيرة لعرين هذا البطل لبحث مبادرتهم الفجَّه لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط.
(4)
لقد نجح عرفات – رحمه الله - وبجدارة بعد وفاته، ان يحول الكرة الى ملعب اعدائة واصدقائه على حد سواء.. دول الاستكبار العالمي رأت فيه العقبة الكأداء في وجه تمرير مؤامرة التسويات، في الوقت الذي رأت في (شارون) حينها صاحب التاريخ الأسود المعروف، بطلا للسلام (وماما تيريزا) جديدة.. لم يستطع عرفات في حياته أن يُقنع العالم بخطأ هذا الموقف، لسبب بسيط وهو أن عرفات لم يجد من الانصار العرب والمسلمين والدوليين من يجرؤ على ان يقول لأمريكا وإسرائيل: لا..
عرف العالم أن إسرائيل وسياستها هي سبب الازمة وأساس المشكلة، وهذا ما ثبت بشكل قاطع منذ أوسلو وحتى الآن. إلا أنه وبسبب توفر مجموعة من العوامل، لم تعد إسرائيل تعبا بالشرعية الدولية ولا بالراي العالم العالمي، واعطت لنفسها الحق ان تتصرف كما لو كانت فوق القانون الدولي. من اهم هذه العوامل الدعم الأمريكي والغربي الاعمى لإسرائيل، وقوى الضغط اليهودية وحلفاؤها من التيارات المسيحية المتطرفة، وقوة أجهزتها الأخطبوطية الغنية المدافعة عنها في كل ميدان وفي اغلب بقاع الدنيا وخصوصا في المناطق المؤثرة في العالم، رغم أن (نتنياهو) رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي ليس أكثر من (كذاب) وشخص (لا يطاق) في نظر الكثير من زعماء العالم.
ما دامت إسرائيل بهذه القوة، فقضاياها هي المنتصرة، حتى وإن كانت المهددة الاولى للأمن والاستقرار الدوليين، كما جاء في استطلاعات الرأي الأوروبية.. لم يكن هنالك بدّ اذاً من اجل قلب الصورة من أن يموت عرفات حتى تنكشف الحقائق، من غير أن نعلق آمالا كبيرة على تحرك عالمي وعربي واسلامي يستثمر هذه التغيرات لتعرية السياسة الاسرائيلية والامريكية، واثبات أن العقبة في وجه السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، والسبب المباشر لما يسمى بالإرهاب في العالم، هي اسرائيل وسياساتها الوحشية، وامريكا ومواقفها العدائية لكل ما هو عربي واسلامي..
هذا فعلا ما يليق بعرفات البطل.. إن يكون له دوره الحاضر في حياته، كما له بعد رحيله.. انه من النوع الذي لا يكل ولا يملّ.. لا بد ان يظل في صلب الحدث… ولا بد أن يحرك الخيوط حتى ولو من تحت اطباق التراب… ماذا فعل العالم بعدما رحل عرفات، وزالت العقبة كما زعموا؟!!
ماذا قدم العرب والمسلمون الذين أحرجهم عرفات كثيرا في حياته للقضية الفلسطينية، وهم يرونه يقود شعبه من خلال (علبة) المقاطعة المحطمة، ومن وراء اكياس الرمل التي ملأت مداخل مكتبه خوفا من اقتحام اسرائيلي مفاجىء…؟!! عشرون عاما مرت على وفاته – رحمه الله، وذهب رؤساء امريكيون كثر بكل أرجاسهم، وجاء بايدن وأخيرا ترامب بكل أرجاسهما ايضا … وعدوا جميعا، فضغطت إسرائيل فلم يصمد أي زعيم أمريكي أمام العنجهية الصهيونية…
سنوات عجاف أثبتت بشكل قاطع أن أمريكا وإسرائيل لا يريدون شريكا لسلام حقيقي، وإنما يريدون (عميلا) يخدم مصالحهم وينحر القضية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد باسم الشعب الفلسطيني ونيابة عنهم … لم يكن عرفات هو المشكلة فقط، ولكن الحقيقة أن كل فلسطيني يقف على رأس الهرم السياسي الفلسطيني ثم هو يصر على الحقوق والأماني والثوابت الفلسطينية، يشكل هو أيضا مشكلة يجب أن تُزال …
لو أن الله قدر للأموات ان يتكلموا ولعرفات – رحمه الله – ان ينطق وهو في نعشه يوم جنازته، لقال لمن نظم له الجنازات المهيبة يوم وفاته: لا أريد تلك الاستعراضات وبالذات على ارض عربية، ولا اريد احدا ان يسير في جنازتي، ولا ان يشارك في وداعي.. اريد العودة السريعة الى احضان وطني وشعبي.. كم تمنيت ان تكونوا معي في حياتي، وأن تقفوا مع شعبي في محنته كما يقف الاخوة الاشقاء.. لم تفعلوا وقد كنتم وما زلتم ترون ما يُفعل بي وبشعبي، وما يُرتكب في حقه من جرائم وفظائع.. لم تفعلوا شيئا ذا بال، مع شكري الجزيل لكم على ما قدمتم لشعبي من فتات موائكم وفوائد أرصدتكم!!!
(5)
في كثير من اللقاءات التي جمعتنا بعرفات - رحمه الله - منذ عودته الى ارض الوطن وحتى قبل وفاته بفترة وجيزة، لمست الألم الذي يعتصر قلبه على الواقع الذي تعيشه القضية الفلسطينية، لأسباب نعرفها جميعا.. إلا أنه وللحقيقة ما سمعته يوما ينتقد من اسماهم (بأشقائه العرب)، بل ذهب مرة الى حد الدفاع عنهم، على اعتبار أن هذا ما يقدرون عليه في ظل الظروف والتعقيدات التي يعيشونها..
رغم ذلك، ما كان صعبا علينا فهم ما بين الكمات.. لقد كان الرجل يرزح تحت همّ كبير ملأ قلبه، وأكل احشاءه.. لا شك عندي في أن الانظمة العربية والاسلامية شريكة الى حدّ كبير في (قتل أمل وروح عرفات) وما زالت حتى اليوم، وجاءت العوامل الأخرى لتهدّ الجسد بعدما مات الأمل.. فهل سيقتل العرب والمسلمون قضية فلسطين، بعدما قتلوا الامل في قلب قائدها؟!!!
حينما كنا نسأله عن السر في صموده رغم كل ما يلقاه، كان يقول 🙁 الله سبحانه وتعالى ووعده النافذ، وأملي في أن يشرفني الله سبحانه ببناء اللبنه الاولى في مدماك فلسطين المحررة، مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عليه السلام).. لقد كان يتحدث بحب لم اعرفه في غيره عن الشعب الفلسطيني، والذي شكل بعد الله سبحانه الرافد الذي أمدّه بالطاقة المطلوبة على استمرار الصمود في ظل ظروف غاية في القسوة والخطورة.. قال لنا يوما وهو يصف علاقته بشعبه الذي يعيش في قلب المحنة: (انظروا الى هذا الشعب البطل كم يعاني، وكم يضحي في سبيل كرامته ووطنه ومقدساته، فكيف لي أن اشكو… سعادتي في ان اتحمل في هذا المبنى/المقاطعة، شيئا ولو يسيرا مما يعاني منه شعبي.. هذا الشعب الذي شرفني بقيادته، وأكرمني بتمثيله.. ان كان هنالك الكثيرون ممن يطالبونني بالاستسلام، فأدير لهم ظهري.. لا أفعل ذلك الا لانني ارى شعبي وهو على ما هو عليه من الاصرار على الحق مهما كلفه ذلك، فكيف يمكنني الا ان اكون مع شعبي في خياره)…