لطالما عُرف أن القلب ليس مجرد مضخة للدم، بل يحمل في طياته أسرارًا أعمق، إذ يحتوي على خلايا عصبية تربطه مباشرة بالعقل.
لكن ما بينته الاكتشافات الحديثة، هو أن تأثير القلب يمتد ليشمل سلوكنا وأفكارنا، فهو يمتلك مجالًا كهرومغناطيسيًا أقوى بـ 5000 مرة من مجال الدماغ. ومع ذلك، لا يزال هذا التأثير المهول للحب والحنين، للفرح والحزن، خفيًا عنا في حياتنا اليومية.
عبر العصور، قدّس الإنسان القلب. في اليونان القديمة، كان القلب هو مصدر الحكمة، مرادفًا للذاكرة والعقلانية. كان يسعى المرء إلى “قلب صلب”، يُقاوم الإغراءات ويتحدّى نزوات النفس البشرية. أما عند الصوفيين، فإن القلب هو الجسر الذي يُوصل إلى المعرفة الروحية. وفي البوذية التبتية، هو نبع الحكمة الداخلية وضمير الإنسان.
العلم، كعادته، يأتي ليؤكد ما همس به الفلاسفة والمفكرون على مر العصور. فالقلب يتحدث بلغة الإيقاع، وليس أي إيقاع، إنه إيقاع متغير. نبض القلب، في حقيقته، ليس منتظمًا تمامًا، فكلما كان النبض منتظمًا جدًا، كان ذلك مؤشرًا على الخطر.
وفي المقابل، تناغم النبض يظهر في لحظات الفرح، الحب، والامتنان، أما في لحظات الغضب والخوف، يظهر النبض في أنماط حادة وغير متناغمة. وهنا يتجلى دور القلب؛ فهو ليس منفذاً أعمى لأوامر الدماغ. أحيانًا، قد يعترض القلب ويهدئ من وتيرته رغم إشارات الدماغ بالخطر. إنه التصرف بحكمة وبتوازن، كحارسٍ أمين يوجه العقل لما يجب أن يكون عليه السلوك.
هذه “الحكمة القلبية” لا تتحقق إلا في حالة توازن داخلي أو ما يُعرف بحالة “الانسجام”. فعندما نكون في انسجام مع أنفسنا، نكون قادرين على الإنصات لقلبنا، هذه الحالة تعزز منطقنا وسلوكنا المتزن، وتجنبنا الفوضى الناتجة عن الخوف والقلق.
لقد أظهرت أبحاث معهد “هارت ماث” في كاليفورنيا أن المشاعر الإيجابية، مثل الامتنان والتعاطف، تعزز التوافق بين القلب والعقل. لكن يجب أن تُستشعر هذه المشاعر بصدق، من أعماق القلب، وليس مجرد أفكارٍ عقلية عابرة. من التمارين التي ينصح بها المعهد هو التنفس بتركيز على القلب، مما يعزز التناغم بين القلب والعقل، وينقل الاهتزازات الإيجابية إلى خلايا الجسد والأشخاص المحيطين بنا. فليس غريبًا أن نجد أن القرب الجسدي، أو وضع اليد على القلب، يُستخدم كعلاج في ثقافات عديدة.
الدماغ، والقلب، يتفاعلان معًا عبر اللوزة الدماغية، المسؤولة عن تقييم الخطر والأمان. فإذا كانت أنماط القلب متناسقة ومتناغمة بسبب المشاعر الإيجابية، ستجد اللوزة الدماغية الأمور مألوفة، وتشعر بالأمان. أما في حالات التوتر الطويلة، عندما نعتاد على القلق والصراعات الداخلية، تصبح هذه الحالة “آمنة” و”مريحة” للدماغ، حتى لو كانت سلبية. وهنا يبرز مفهوم “الخط المرجعي المتغير”، حيث نتكيف مع السلبية حتى تصبح هي القاعدة.
لقد دأبت الثقافة الغربية على تمجيد العقلانية، وجعلت التفكير العقلي المرتكز على الماضي هو الأساس في بناء المستقبل. نقف بين الماضي المليء بالذكريات المؤلمة أو الحنين، وبين المستقبل المليء بالمخاوف والتوقعات. ولكن القلب لديه أسلوب مختلف: التفكير القلبي. إنه تفكير ينطلق من حالة سلام وامتنان، ينظر إلى الماضي بعين التفهم والغفران، ويتطلع إلى المستقبل بثقة وحماسة كالطفل المتطلع إلى المجهول.
لنتخيل معادلة بسيطة: 3 + 4 = 7. ولكن بدلاً من التفكير التقليدي الذي يُقيدنا بالماضي، دعنا ننظر إلى المستقبل ونبدأ من النهاية. يمكننا أن نصل إلى 7 بطرق غير محدودة، مثل 3 + 1 + 3 أو 3 + 2 × 2. هذا هو التفكير القلبي، الذي يفتح أمامنا إمكانيات لا حدود لها لتشكيل المستقبل.
كما يقول” كلاوس شارفمر” في “أساسيات نظرية U”، يظهر مفهوم الـ”Presencing”، أي الشعور باللحظة الحاضرة، واستشعار المستقبل المحتمل. فبينما يُقيدنا التفكير العقلي، يحررنا التفكير القلبي، ويفتح أمامنا آفاقًا لا نهاية لها، تجعل من الحاضر نقطة الانطلاق نحو المستقبل الذي نحلم به.
السؤال الذي يبقى: في أي مستقبل تحلم أن تعيش؟