في هذه الحلقة من سلسلتكم “حكاية جامع” نعود إلى حاضرة مراكش لنتوقّف عند جامع مولاي اليزيد أو جامع القصبة أو جامع المنصور، مسجد المنصور الموحدي، مسجد المنصورية.
أعدها للنشر- عبد المراكشيle12
اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.
بناء على هذه المعطيات لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.
في هذه الحلقة من سلسلتكم “حكاية جامع” نعود إلى حاضرة مراكش لنتوقّف عند جامع مولاي اليزيد أو جامع القصبة أو جامع المنصور، مسجد المنصور الموحدي، مسجد المنصورية.. هذا المسجد التاريخي الذي بُني بين عامي 1185 و1190 م على يد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور. وتم ترميمه وتجديده عدة مرات عبر تاريخيه الطويل، كانت أهمّها في عهد السلطان السعدي عبد الله الغالب في القرن السادس عشر الميلادي، وبعدها في عهد السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله في القرن الثامن عشر الميلادي.
وقد تمّ تسجيل المسجد (الذي لا يزال متضرّرا من آثار الزلزال الأخير) في قائمة “يونسكو” للتراث العالمي في 1985 كجزء من تاريخ مدينة مراكش.
شيّده السلطان يعقوب المنصور الموحدي ما بين سنتي 581 هـ/ 1185 م و586 هـ/ 1190 م وهو متوجه إلى الأندلس في غزوته الشهيرة (غزوة الأراك) ولما عاد مظفرا في 594 هـ/ 1197 م وجد الجامع قد تم تشييده على أحسن صورة.
يقول ابن أبي زرع كما جاء في “القرطاس”: “إن يعقوب أنفق في بنائه أخماس غنائم الروم”. ويقول الحسن الوزان في “وصف إفريقيا”: “مسجد في غاية الجمال والعظمة، تعلوه صومعة متناهية الجمال، وفي أعلاه ركز عمود من حديد فيه ثلاث تفاحات من ذهب أكبرها السفلي، وأصغرها العليا. وقد أراد كثير من الملوك أن يزيلوا هذه التفاحات وصكّها نقدا عندما اشتدت حاجتهم إلى المال، لكنهم في كل مرة تحدث لهم حادثة غريبة تلزمهم بتركها، حتى أنهم تطيروا من مسها“.
بعد بنائه وتعاقب السلاطين عليه، شهد الجامع عدة إصلاحات وترميمات غيرت من شكله الأصلي. وللجامع الحالي أربعة أبواب عمومية: واحد على الجهة الشمالية قبالة المحراب، وثلاثة على الجهة الغربية، رغم أن المراجع تشير إلى أن الجامع كان يتوفر على سبعة أبواب. يقول ابن أبي زرع “وصنعوا للجامع سبعة أبواب على عدد أبواب جهنم، فلما دخله أمير المومنين أعجبه وسر به، فسأل عن عدة أبوابه، فقيل له إنها سبعة، والباب الذي يدخل منه أمير المومنين هو الثامن، فقال عند ذلك: لا بأس بالغالي إذا قيل حسن وفرح به غاية“.
ويتحدث صاحب “الاستقصا” عن انفجار وقع في الجامع في 981 هـ/ 1573 م وسببه كما جاء في أعلام التعارجي: “كان بقصبة مراكش جماعة من أسارى النصارى من لدن أيام أبي العباس الأعرج وأخيه عبد الله الشيخ السعدي، فرأوا الحجم الغفير من أعيان المسلمين وأهل الدولة يحضرون كل جمعة للصلاة مع السلطان بجامع المنصور (مولاي اليزيد) فحدثتهم نفسهم بأن يصنعوا مكيدة يهلكون بها السلطان ومن معه. فحفروا في خفية تحت الجامع حفرة ملأوها بالبارود ووضعوا فيها فتيلا تسري فيه النار على مهل كي ينقلب الجامع بأهله وقت الصلاة. فنفطت المينا وانهدمت بها القبّة الواسعة من الجامع المذكور، وانشقّ منارها شقا كبيرا ما زال ماثلا إلى الآن”. كما جُدّد الجامع بعد ذلك من قِبَل السلطان محمد بن عبد الله، ثم السلطان مولاي عبد الرحمان.
وقد بُويِع في الجامع الخليفة السلطان إدريس المامون بن يعقوب المنصور بعد صلاة العصر من يوم الأربعاء 28 شوال 624 هـ. فكان أولَ ما صنع لما دخل مراكش هو سب المهدي بن تومرت على منبر الجامع. وبعد أيام جمع رؤساء الموحّدين وقطع منهم نحو أربعة آلاف رأس، كما أورد صاحب “إيليغ قديما وحديثا“.
وورد في “القرطاس”: “قُرِئت على هذا المنبر بيعة السلطان محمد بن عبد الله سنة 1757 م التي وُجِّهت من فاس إلى مراكش. وبويع بالجامع أيضا السلطان يحيى بن محمد الناصر بن يعقوب المنصور، وهو شاب غر وسنه حينئذ 16 سنة، عام 624 هـ/ 1227 م، كما في “الدرر الفاخرة“.
ويعدّ هذا الصرح الديني، الذي يوجد غير بعيد عن مسجد الكتبية العريق، وبجانبه عدد من المآثر التاريخية، أهمّها قبور السعديين، ضمن معالم حضارية عديدة بنيت في زمن الموحدين، من أكبر المساجد في المدينة بمساحة تقدر بحوالي 6 آلاف و500 متر مربع، وأحسنها هندسة ورونقا. ويتوفر هذا الجامع على أربعة أبواب عمومية، في حين ذكر المؤرّخون أنه كانت له سبعة أبواب وباب خاص بالسلطان. ومئذنته لا تمثل الصفة والخاصية التي طبعت وتميز بها الشكل المعماري للصومعة المغربية من حيث الكبر والضخامة، وبخاصة مع بداية القرن السادس الهجري، كما هو الشأن بالنسبة إلى صومعتي الكتبية وإشبيلية في الأندلس.
وقد شُيّدت المئذنة في الركن الشمالي الغربي من الجامع، مربّعة القاعدة ضلعها 8,8 أمتار، ملساء إلى حدود سقف الجامع ومزخرفة بعد ذلك إلى القمة، حيث إفريز من الخزف.
كما جرت في عهد الملك محمد السادس عمليات إعادة إصلاح وترميم كبيرة في هذه المعلمة الدينية استغرقت أربع سنوات، شملت الواجهة الجنوبية للمسجد والأسقف والقباب، مع تدعيم أرضية وجدران المسجد، وترميم العناصر الزخرفية على الخشب والجبص، وتأهيل الشبكة الكهربائية والصوتية. كما تمت تهيئة الساحة المجاورة له بخلق مناطق خضراء وتجهيز النافورات.