إذا كنت تريد أن تفهم كيف ينهار مجتمع دون حرب أو مجاعة، فلا تبحث بعيدا. يكفي أن تلقي نظرة على التيك توك، حيث تُرفع رايات التفاهة، وتُذبح القيم على مذبح “الترند“.
هنا، يصبح الأحمق نجما، والمحتوى الفارغ عملا فنيا، والجماهير تهرع خلف كل ما هو عبثي، وكأننا في سيرك مجاني بلا نهاية.
في الماضي، كانت ربة البيت عماد الأسرة، واليوم صارت بطلة في معركة البث المباشر، تلهث خلف المشاهدات كما يلهث الغريق خلف الهواء. بدلا من أن تربي أبناءها، أصبحت تربي هاتفها على وضعية التصوير، وتختبر أيهما أكثر طاعة: الطفل أم خوارزميات المنصة؟
وبينما كانت الرجولة تُقاس بالحكمة والمواقف، أصبحنا اليوم أمام جيل من “الفرسان الرقميين”، يخوضون تحديات بلا معنى، مثل شرب البيض النيء أو الرقص بملابس النوم، وكأن الرجولة تقاس بعدد اللايكات!
كيف انحدرنا إلى هذا القاع؟ كيف تحولت العائلة من كيان مقدس إلى مجموعة أفراد يجلسون في غرفة واحدة، لكن كل منهم يعيش في عالمه الافتراضي؟ الأم منشغلة بفيديوهاتها، الأب يتابع محتوى لا يضيف له سوى المزيد من البلادة، والأطفال يتلقون دروس الحياة من مراهق يصرخ في والديه تحت شعار “المزاح“.
والأسوأ أننا لم نكتف بالاستسلام لهذه التفاهة، بل أصبحنا ندافع عنها بشراسة. تسمع أحدهم يقول: “مجرد تسلية، لماذا كل هذه الجدية؟” وكأن التسلية عذر كاف لقتل القيم، وكأن الانحطاط يصبح مقبولا بمجرد تغليفه بالضحك.
نحن نبتلع هذا السم الرقمي بملعقة من السكر، غير مدركين أنه يأكل فينا شيئا فشيئا، حتى نتحول إلى كائنات مبرمجة على الاستهلاك والانبهار بكل ما هو مبتذل.
وفي خضم هذا العبث، تصعد شخصيات لم يكن لها أي وجود يُذكر، لكنها فجأة تتحول إلى “نجوم” بفضل فيديوهات لا تمتّ للعقل بصلة. يكفي أن يصرخ أحدهم أمام الكاميرا، أو أن تحوّل فتاة حياتها اليومية إلى مسلسل رديء، حتى تتهافت عليها الشركات والعلامات التجارية، وكأننا نكافئ السطحية ونعاقب العمق.
أصبح المثقف كائنا منقرضا، والفنان الحقيقي متسولا يبحث عن جمهور، بينما صناع التفاهة يعتلون منصات النجاح.
التيك توك لم يأت من العدم، بل وجد أرضا خصبة في مجتمعات مستعدة لاحتضانه.
المجتمعات التي لا تقدّر الثقافة ستجد بديلها في الرقص العشوائي، والتي لا تحترم المعرفة ستجد راحتها في فيديوهات المقالب الصبيانية. نحن من صنع هذه الفوضى، ونحن من نغذيها يوميا بمزيد من الوقت والانتباه.
فهل هناك حل؟ بالتأكيد، لكنه يتطلب شجاعة. شجاعة لتقول “لا” لهذا التيار الجارف من السطحية. شجاعة لتربي أبناءك على أن النجاح لا يعني أن تصبح مشهورا بأي ثمن، بل أن تكون إنسانا يحترم ذاته ويحترم الآخرين.
لكن قبل أن تغلق هذه الصفحة، كن صادقا مع نفسك: هل ستقاوم، أم أنك ستعود بعد دقيقة لتفتح فيديو تافه؟ ربما، فقط ربما، أنت جزء من المشكلة أيضا!.
*نعيمة لحروري -كاتبة صحفية