يقع الجامع الكبير وصومعته الشاهقة في قلب المدينة القديمة لتزنيت، وسط أحياء تنضح بالثقافة وعبق التاريخ، مضيفا قيمة جمالية، كباقي المساجد التي انتشرت في كامل أنحاء هذه المدينة السّوسية الهادئة.
أعدها للنشر – عبد المراكشيle12
اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.
بناء على هذه المعطيات لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.
سنأخذكم، من خلال هذه الفسحة الرمضانية “حكاية مسجد” في جولات عللا بساط من كلمات خطّتها أقلام مغربية مختلفة عن أشهر مساجد المغرب وجوامعه.
يقع الجامع الكبير وصومعته الشاهقة في قلب المدينة القديمة لتزنيت، وسط أحياء تنضح بالثقافة وعبق التاريخ، مضيفا قيمة جمالية، كباقي المساجد التي انتشرت في كامل أنحاء هذه المدينة السّوسية الهادئة.
يُعرف هذا الجامع بتسميات عديدة، مثل المسجد الأعظم أو “الجامع القديم”، ويعدّ من المراكز العلمية والدينية البارزة في منطقة سوس، التي انتظمت فيها الدراسة وازداد إقبال الطلبة عليها من كل الآفاق من أجل تلقي مختلف العلوم.
ويقع المسجد في قلب النواة الأولى لـ”عاصمة الفضة”، في حي إدضلحة، ما يجعله شاهدا على تاريخ المدينة العتيقة التي تظهر أحياؤها من فوق صومعته البالغ ارتفاعها 16 مترا، بينما الدروب التي تتوسطها تبدو مثل خلية نحل.
وإضافة إلى الصلوات التي تقام فيه بكرة وأصيلا، يعد الجامع الكبير أول مسجد في المدينة تقام فيه صلاة الجمعة، وقد ظلت سمته البارزة كثرة الإقبال على حلقات الدروس المنتظمة داخله، ليبقى بذلك منارة علمية عبر التاريخ.
تتوزّع مساحة المسجد، بحسب المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية في تزنيت، على قاعة للصلاة مخصصة للرجال (1239 مترا مربعا) تنفتح في واجهتها الشرقية على فناء خارجي (صحن) على مساحة 400 م، تتوسطه خصة للماء، إلى جانب مقصورة، ومرافق صحية.
ويتكون بيت الصلاة من بلاطات متعامدة مع جدار القبلة بدعامات (سواري) وأقواس عالية، تنفتح من جهاتها الأربع على فناء (صحن) مكشوف في الوسط.
ولتسهيل عملية ولوج المصلين إلى قاعة الصلاة، تم تزويد المسجد بثلاثة أبواب موزعة على جهاته الأربع، من أبرزها الباب الرئيسي المنفتح على الجهة الغربية على الساحة المحاذية لقصبة أغناج، والتي تؤدي مباشرة إلى معلمة العين الزرقاء “العينْ أقديمْ“.
كما تتوفر هذه المعلمة الدينية، التي تبلغ الطاقة الاستيعابية للمصلين فيها حوالي 1800 مصل ومصلية، على عدة مرافق وظيفية، بما في ذلك مساكن للإمام والمؤذن، وساحة داخلية مفتوحة على مساحة 400 متر مربع، علاوة على مرافق ثقافية تشمل مؤسسة خاصة للتعليم العتيق على مساحة 2220 مترا مربعا، ومكتبة وقاعة للمحاضرات ومرافق أخرى.
وفي إطار جهود الحفاظ على الموروث المعماري الديني وحمايته من كل تحريف أو تشويه، شهد المسجد ومرافقه ترميما بالكامل من أشرفت عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في 2012، بهدف المحافظة على طابعه الأصلي وذلك باستخدام المواد والطرق التقليدية، وفق مواصفات تحفظ للمعمار رونقه وجماليته، إضافة إلى تهيئة الساحات الخارجية للجامع، قبل أن يتم فتحه، رسميا، لأداء الصلوات وصلاة الجمعة بتاريخ 13 يوليوز 2016.
وعن تاريخ هذه المنارة العلمية والدينية، صرّح أحمد بومزگو، الباحث في التاريخ، بأن أولى الإشارات إلى المسجد القديم وردت في سياق نازلة فقهية خلال القرن الثامن العاشر، إذ ارتضى التزنيتيون بناء مسجد كبير وسط البلدة لتبديد الخصومات بين وحدات “أيت تزنيت” في أحقية كل واحد منها في إقامة صلاة الجمعة بمساجدها (إيداكفا، إدزكري، أيت محمد، إدضلحة).
وأضاف، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن تجديد بناء المسجد تم على يد القائد سعيد الكيلولي في 1898 م، بعد تهدم المسجد القديم مع تغيير مكان صومعته البسيطة الواقعة في مكان خصة الماء الحالية، فأحاطه بالجدار الخارجي وسقف منه الصف الأول، دون إتمام البناء، فبقيت الصومعة بلا تبليط، بما في ذلك أخشابها البارزة، إلى أن أضاف القائد همو التيزنيتي الصفين الثاني والثالث الموالين للقبلة، وتم تبليط الصومعة في 1926 م.
وقد اضطلع هذا الجامع، بحسب بومزگو، بدور كبير في صفوف المقاومة التي عرفتها تزنيت ومناطق سوس في 1912م، بحيث شكل فضاء المسجد ومحيطه قبلة للكثير من علماء ووجهاء سوس ممن شكّلوا عماد المقاومة.
ولم تبرز شهرة هذه المعلمة التاريخية، بحسب المصدر ذاته، إلا في بداية القرن التاسع عشر عندما انتقل إليه العالم الشهير محمد بن محمد بن الطيفور الأسغاركيسي (1850 م) الذي انتظمت الدراسة في المسجد على يده وازداد إقبال الطلبة عليه من جميع الآفاق، كما قام في آخر عمره بتحبيس جلّ كتبه على خزانة الجامع، وعددها ينيف عن الأربعمائة.
وقد تعاقب على الجامع علماء كثيرون، وخاصة العالم القاضي أحمد أعمو، الذي درس في الجامع الكبير لتزنيت في بدايات 1939 م، فاجتمع عليه عدد من الطلبة سواء من أبناء البلدة أو غيرهم من الآفاق البعيدة، وانتفع بعلمه الكثير منهم، وكان ذا عزيمة قوية في تحسين وتجويد طرق التدريس.
وسجل الأستاذ الباحث أن نشاط وإشعاع هذا الصرح الديني ازداد بعد مرحلة الاستقلال، فأصبح ينافس المدارس العتيقة المشهورة آنذاك، وأضحى فرعا من فروع معهد محمد الخامس في تارودانت في 1957 م، بحيث كان للمرحوم محمد الباز دور بارز في تحسين طرق ومناهج تدريس مختلف العلوم منذ أن التحق بالجامع، إماما وخطيبا، إذ تولى الإشراف عليه وإدارته بجد منقطع النظير، أما دروسه فكانت تتسم بالجدية والحيوية والصرامة.
وذكر أنه في 1984 م، انتقل المعهد إلى بناية حديثة، فاستردت المدرسة أنفاسها من جديد، وسميت مدرسة الحسن الثاني للقراءات، ثم أدمجت في نظام الأوقاف، فظلت على الدوام من المعالم الدينية التي تميز المشهد الديني بالمدينة وأحوازها.
ومن أجل إبراز مكانته على مستوى الأهمية المعمارية، ذكر الباحث في التاريخ أن من خصوصيات الجامع الكبير المعمارية شكله المثير والمتميز، وكذا الشكل الهندسي لصومعته، التي حافظت على شكلها المربع الثابت في زواياه، المتماسك بطريقته المعمارية الفريدة، والذي يعكس عمق التأثر بالمعمار الحضري الديني.
ويرى بومزگو أن هذه الملامح الجمالية تحيل إلى تأثيرات السعديين في النمط المعماري، خاصة الديني في الجنوب المغربي، لاسيما تقنية الأخشاب الأركانية البارزة في زوايا الصومعة التي بنيت بالتراب المدكوك وخضعت لتعديلات وترميمات متعاقبة.
وتبقى المساجد العتيقة موروثا هاما، يعكس عراقة التاريخ الإسلامي، واشعاعه التعليمي والتثقيفي، والتي جعلت منهم منارة للعلم والتربية والشريعة، فضلا على كونها فضاءات روحانية من أجل تزكية النفس البشرية.