مصطفى المنوزي *
رغم أن الإصلاحات الدستورية والمؤسستية على إثر الحراك السياسي والحقوقي ، منذ 20 فبراير وخطاب تاسع مارس ودستور يوليوز 2011 ، نزعت عن وزير العدل صلاحية تدبير شؤون النيابة العامة ، ومنذئذ حاولت وزارة العدل أن تعوض هذا الفقد بمحاولة القيام بمبادرات إستباقية على مستوى التشريع والتأثير على مساره ومساطره ، وكانت أول خطوة هي سحب القانون المتعلق بتجريم الإثراء غير المشروع ، ومحاولة بعثرة الأوراق في العلاقة مع مبدأ فصل السلطات واستقلال بعضها عن البعض ، وخير مثال افتعال سردية جواز التلقيح وفرض الحصار على المحامين ، ناهيك عن التدخل في كل الأمور، فقد قررت وزارة العدل الحلول في المواقع الحساسة ، ولذلك فإن كل هذا التطاول على بقية المؤسسات وصلاحياتها يعتبر بمثابة مخطط لأمننة الشأن العمومي ، والذي فضحته ظاهرة أمننة مطالب محاربة الفساد والتي برهنت على حصول تحول قلق من الناحية الدستورية ، ذلك أنه عوض أن تهتم الحكومة بإقتسام السلطات وإسترجاع الإختصاصات مع المؤسسات الدستورية ، إجتهدت الوزارة والتي لم تعد سيادية بنفس القوة بعد أن سحبت منها رئاسة النيابة العامة ، وكذا سحب نيابة رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية ؛ حيث صارت بهذه السلوكات المتهورة تتعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية بعكس ما ينص عليه الدستور ؛ حيث يتم تحويل المطالب الإصلاحية المشروعة إلى قضايا أمنية تُعالَج بأساليب بيروقراطية ، بدلاً من معالجتها عبر قنوات الإصلاح القانونية والمؤسسية، هذا التحول يمثل تهديدًا ليس فقط للحريات الفردية، بل أيضًا للعملية الإصلاحية نفسها. مما نتج عنه تكريس لواقعة أمننة مطالب محاربة الفساد ، من خلال اعتماد عدة آليات تهدف إلى تحويل القضايا الإصلاحية إلى تهديدات أمنية ، فيتم تصوير الحركات المناهضة للفساد على أنها تهديدات للأمن الوطني أو الاستقرار الاجتماعي. يعتمد هذا التحويل على خطاب يخلط بين المطالب المشروعة والتهديدات .
كما أنه تبلور خطاب امني يصور أحيانا الوقفات السلمية و الاحتجاجات المطالبة بمكافحة الفساد كـ”مؤامرة” أو “تحريض على الفوضى” ، ويتم استخدام الإعلام لتشويه صورة الحركات المناهضة للفساد، حيث تُصوَّر على أنها مدفوعة بأجندات خارجية أو تهدد النظام العام ، و يهدف هذا التشويه إلى عزل هذه الحركات وتقليل التأييد الشعبي لها .
لذلك وجب أن نبحث في الأسباب التي تجعل الحكومات تلجأ إلى أمننة مطالب محاربة الفساد بدلاً من الاستجابة لها بشكل جاد.
فلأن محاربة الفساد تتطلب إصلاحات جذرية في النظام السياسي والاقتصادي، باعتبار أن الفساد بنيوي وهو مظهر من مظاهر الإستبداد ؛ فإن هذه الدينامية تشكل تهديدًا لمصالح النخب السياسية وارتباطاتها بالسلطة الحكومية . بدلاً من تنفيذ هذه الإصلاحات، تختار الحكومات استخدام الأدوات الأمنية لحماية مصالحها ، أي أن الفساد غالبًا ما يكون مرتبطًا بالنخب الحاكمة أو المؤسسات القوية ، فإن إختيار مخطط أمننة المطالب ضد الفساد يسمح للحكومات بتجنب المساءلة وتحويل الانتباه عن الفساد الفعلي ، وهنا ينصب كل مسؤول نفسه وصيا على مهمة الحفاظ على الاستقرار السياسي ، والدفاع عن النظام العام وسلامة الدولة ؛ وكأننا بصدد أنظمة إستبدادية أو هشة، حيث تُعتبر الحركات المناهضة للفساد تهديدًا للاستقرار السياسي ، فتتم الدعوة إلى استخدام الأمننة لتبرير الردع والحفاظ على الوضع القائم ، حيث الفساد يرقص بحرية على الركح ، وعندما تقتنع بعض المؤسسات بخطورة الفساد المستشري كالسرطان ، فيتم اللجوء إلى تهذيب الأغصان وتشذيب الاوراق الصفراء عوض إقتلاع الشجر الفاسد . وفي هذا السياق يتم التباهي بحملة التطهير رغم إنتقائيتها وموسميتها وفي هذه الحالات، تُستخدم مكافحة الفساد كأداة لتحويل الأنظار عن قضايا أخرى مثل الفشل الاقتصادي أو انتهاكات حقوق الإنسان .
لكن الحقيقة التي تخفيها شجرة بعض المسؤولين لكي لا ينفضح ما يجري بإسم ناموس الغابة ، هي أن هناك محاولة الإلتفاف على عقدة فقدان تملك سلطة الإتهام وفقد التحكم في النيابة العامة بسحب الرئاسة من وزارة الأختام ، لأن المتضرر حقيقة من تشريع مقتضيات المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية هو قضاء النيابة العامة وقضاء التحقيق ؛فالنيابة العامة و قضاة التحقيق ستتقلص سلطاتهم و لن تشمل – في حالة المصادقة على هاته المادة كما هي في المشروع -الجرائم التي تمس المال العام و التي ستصبح خاضعة لامتياز إجرائي استثنائي يتمثل في خلق قيد غريب على سلطاتهم سيغل أياديهم في التحرك حتى و لو توافرت لهم كل وسائل الإثبات ضد مختلسي و ناهبي المال العام. و لهذا نرى أن تحريف النقاش من طرف المشرع الحكومي وأمننته بإسم مناهضة ابتزاز الجمعيات للمشتبه فيهم باختلاس المال العام ، وهي ذريعة مغرضة من تبرير تجاوز اختصاصات السلطة القضائية بكل مكوناتها في تطبيق القانون الجنائي على جميع المواطنين في إطار مبدإ المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص الدستوريين ، وخصوصا في ضوء استقلال السلطة القضائية و تحرر النيابة العامة من وصاية وزارة العدل ، وفي ظل تصاعد تحريك المساطر ضد ناهبي المال العام ، وهو أمر من شأن تقويض القاعدة الإجتماعية للوكالات الحزبية الإنتخابوية ، وبالتالي فإن ما يتم الترتيب له يستهدف استراتبجية عدم الإفلات من العقاب ويحرم السلطة القضائية من ممارسة اختصاصاتها بكل نزاهة وإستقلالية . وإن هذه هي الخلفية وراء مبادرة وزارة العدل ، لأن المتابعات ستظل مقيدة ومشروطة
إن الاتجاه الذي يسير فيه وزير العدل و من يحركه في الكواليس سيجعل مختلسي المال العام في منآى تام عن أعين قضاة النيابة العامة و قضاة التحقيق إلا إذا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض يوجهه إلى قضاة النيابة العامة أو قضاة التحقيق من أجل القيام بالأبحاث ، وهو طلب مشروط بتوصله بإحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو بطلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو الإدارات المعنية أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة و محاربتها. وهو ما يرسخ تمثلات الإمتياز القضائي ، ويشرعن الإفلات من العقاب ، أما التهجم على الجمعيات ، والتي بإمكانها مواصلة اختصاصها الرقابي بمجرد إرسال أو نشر الشكايات في صيغة وشايات ، فهو مجرد سردية أمنية يراد بها التحايل من أجل شرعنة إنتحال صفة وقرصنة سلطة الإتهام من ذوي الإختصاص.
لذلك وجب التحذير من الإنسياق مع نزوات أمننة مطالب محاربة الفساد لأن ذلك يؤدي إلى آثار سلبية عميقة على المجتمع والدولة نفسها ، لأن استخدام الصيغ الأمنية لردع المطالب المشروعة يؤدي إلى تآكل الثقة بين الشعب والسلطات العمومية ، مما يؤدي إلى مزيد من الاستياء والغضب الشعبي وتقويض الإصلاحات الحقيقية ؛ إن أمننة مطالب محاربة الفساد تعني في آخر التحليل تجنب الإصلاحات الحقيقية والعميقة التي يحتاجها الوطن ، مما يؤدي إلى استمرار الفساد وتغوله ، وهو أخطر من ادلجة الدولة وتحويلها إلى دولة رخوة حيث تضخم القوانين وعلى علتها دون أثر ردعي ، خاصة في ظل مؤسسة تشريعية يصعب إنكار المناورات اليائسة لإختراقها من قبل الأباطرة المدمنين على شراء الذمم وبيع الضمائر ، مما يزيد من تفاقم الإحتقان الإجتماعي بتفاقم التوتر الأمني و التأزيم الاقتصادي . لذلك وجب التحذير من تضخم الخطاب الأمني والتعسف في استخدامه لتبرير الكبح والقمع والتحايل على الإختصاصات ، مما يؤدي إلى تكريس مظاهر الاستبداد وتقليص الحريات العامة و الفردية، ومما قد يزيد من القمع ويشرعن للإفلات من العقاب بغياب المساءلة وتهديد ادوار المجتمع المدني السلمية والتوعوية والتأطيرية ، وهو تقويض صارخ للديموقراطية التشاركية ، فالتضليل المفرط كالقمع ضد الحركات المناهضة للفساد يعرض المجتمع المدني للخطر ويحد من قدرة النشطاء على العمل بحرية، مما يضعف الرقابة المجتمعية وإرادة الإصلاح و التغيير.
إن المعركة المطلوبة هي مواجهة أمننة مطالب محاربة الفساد بتعزيز الشفافية والمساءلة حيث يجب أن تكون عملية مكافحة الفساد شفافة وقابلة للمساءلة أيضا ، ولكن دون منع إمكانيات التظلم والوشاية المشروعة ، لأن هناك قانون جنائي يعاقب كل المخالفات ويردع كل الدعاوى الكيدية ، فدور السياسة الجنائية : الوقاية من الجريمة وليس الوقاية من التظلم التعسفي من الجريمة ، بحيث يتم إخضاع الإجراءات التشريعية لرقابة قضائية بعدية ، ولا يحق افتعال فوبيا التعسف في إستعمال حق التشكي والتقاضي ، وتبعا يمكن تأطير كل الإنحرافات بعيدا عن أي شرعنة للإفلات من العقاب كأصل وتبرير كل تعسف في محاربة الفساد كفرع .
من هنا وجب تقدير مجهودات المنظمات الحقوقية والمدنية وتثمينها ، و يجب دعم مجهودها في مراقبة الإجراءات الأمنية والتشريعية والتصدي لمحاولات أمننة المطالب بتعزيز الوعي النقدي وتجويد المبادرات التشريعية ودمقرطتها لضمان أن تكون إجراءاتها متناسبة مع قواعد ومعايير حقوق الإنسان ، كما أنه من المهم تعزيز الحوار الديمقراطي حول قضايا الفساد، بدلاً من تركها للسلطة التنفيذية و للنخب الأمنية أو السياسية والحزبية ، والتي لاتؤمن بجدوى ضمان التوازن بين الأمن والحريات.
*رئيس المركز المغربي للديموقراطية والأمن