منذ حصول المغرب على الاستقلال ، لم تتمكن أجيال النخب السياسية المتعاقبة على الحكم من تطوير وتوسيع وتقريب الديموقراطية من المواطنين عبر استفادتهم من تداعياتها الاقتصادية والاجتماعية و السياسية وتنفيذ الدساتير ومكتسباتها الحقوقية خاصة في جوانب الحريات والمستوى المعيشي للأسر وضمان المستقبل التعليمي والرعاية الصحية وذلك طبع ناتج عن سياسة حصرت في نخب محددة تكاد تكون نفسها لولا عامل الموت الذي يفعل فعلته ، فتوزيع الخيرات ضمن النمط الاقتصادي الذي اختارته النخب السياسية وكذا البنية الحزبية التي تفرز نخبا تسير في نفس الاتجاه السياسي ذاته ، مما يترتب عنه سلسلة متوالية من أحزاب تردد أفكارا مكررة وتتشبث بخيوط تكاد تكون من أحلام اليقظة ، أحزاب لا تتوفر على أي مشروع مجتمعي أو نهج فكري يمكن من خلال أن يتولد عنه امر ما يمكن أن يؤسس لبنية سياسية صالحة لأن تصمد أمام التغييرات التي تحدث كل يوم في عالم متحولة بسرعة فائقة.
آراء أخرى
وهذا يؤدي بنا الى محاولة فهم هذا الروتين السياسي الذي طال أمده في الوقت الذي تغير فيه كل شيء، طبعا هذا لم يأت من فراغ فالحمولة السياسية للنخب التي توالت على الحكم سواء في البرلمان او الحكومة بل أيضا في المؤسسات العامة والخدماتية هي نفسها من حيث التفكير والتسيير الذي يتمحور حول ممارسات يمكن اختزالها في البحث عن الاستفادة الذاتية أو الطبقية بل تصل الى القبيلة والعائلة ، وما عدا ذلك ” سير فحالك”، كل ذلك ما كان ليحدث لون أن البنية الذهنية والسياسية لم تكن من صنف “أنا ومن بعدي الطوفان” ومن فئة التفكير السطحي الباحث عما يشع ويبهر العيون والأذهان ، أي التركيز على الواجهة، خاصة وأن المجتمع عامة مازال في غياهب الجهل ومكبل بالخرافات ولا يرى النور أبدا بحكم تحطيم كينونته باللغط الكلامي والفهم المغلوط المؤسس على الوهم والكذب وما ورائيات التي تحجب عمليات تشغيل العقل والفكر العلمي.
لذا اخترت لهذا المقال هذا العنوان، لأنه يعبر عن واقع سياسي يتسم بالمفارقات والتناقضات التي لا تفضي لأي تركيبة يمكنها أن ينتج عنها ما ينفع الناس. ومن تلك المفارقات أن المغرب مغربان أو وجهان ومن له وجهين أو عدة أوجه لا يمكن تنظيفها كلها، والحديث عن وجه المغرب الواجهة البراقة والمغرية يقتضي الحديث أولا عن الوجه الأخر المخفي وراء أغطية سميكة ومنها من هي في سراديب مظلمة لا ترى النور ولا يسلط عليها ضوء الكاميرات ولا يطلع عليها الصحافيون ولا أحد يعرف أين هم ومنهم وكيف يعيشون. المغرب الحالي قد يبدو لغير المتعمق فيما وراء الواجهة التي تخفي ظواهر اجتماعية واقتصادية وسياسية أقل ما يمكن القول عنها أنها لا تمت للعصر الحديث بصلة، ذلك أنك أين ما وليت وجهك تجد مداخل المدن لها واجهات تغري الزائر ويندهش لمناظرها وهندستها وتزيينها، لكن سرعان ما يكتشف أنها كانت عبارة عن واجهة تخفي عمقا بئيسا يغط في انعدام البنيات التي تطلبها الحياة السليمة والتي تصون كرامة الإنسان. وبذلك تكون تلك الثنائية المتناقضة فيما بينها، تفصل المغرب الى مغربين: واجهة مغرب، ومغرب الواجهة.
إلا ان اليوم سنركز على واجهة البرلمان وبرلمان الواجهة، وذلك بمناسبة تجديد واجهة مقر البرلمان المغربي دون التخلي عن برلمان الواجهة أو حتى التفكير في ترميمها وتحيينها وفق متطلبات المرحلة السياسية الحرجة التي نمر بها. وبهذا الخصوص علينا أن نتساءل هل ترميم واجهة البرلمان المغربي هو تكريس لبرلمان الواجهة التي طال أمد استثمارها سياسيا ولم تعمل النخب الحالية ولا السابقة الى بذل أي جهد لتفعيل العمل البرلماني والخروج من القوقعة التي وضعت نفسها فيه بحيث كرست دور المؤسسة التشريعية في عمليات روتينية تقليدية تنحصر في التصويت وبدون مناقشة عميقة ومدققة غالبا ،ومما يحز في النفس أن واجهة البرلمان كانت ولا تزال شاهدة على مر الزمن السياسي المغربي على استعراض كل المظاهر والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمهنية أمامها ، من معطلي حاملي الشواهد الجامعية الى المكفوفين ومساندي فلسطين ومعارضي التطبيع والمطالبين بالانفراج السياسي وإطلاق سراح معتقلي الرأي والصحافيين وغيرهم من مساندي حقوق المرأة وحمايتها من العنف والاستغلال وحماية الطفولة ، كل ذلك لم يحرك من بداخل البناية رغم أن أصوات هؤلاء الذين بحت حناجرهم متأكدين ان ممثلي الأمة يسمعونهم جيدا ولكن لا من يجيب .ولقد كانت تلك الواجهة المراد ترميمها أولى بها ان تمرر تلك الأموال لسد قضية من القضايا التي تطرح امامها ، ولكن برلمان الواجهة يصر على أن يبقى على الحال ، وتستثمر واجهة البرلمان في برلمان الواجهة حتى يعمي بريق الأولى سر الثانية ، وتظل الواجهتين في علاقات تبادل المهمات من أجل أن يظل الوضع السياسي البرلماني على حاله يجر وراءه نفس الصيغ الخادعة لسياسة برلمانية ظاهرها براق وباطنها فراغ لا يحتوي على شيء ، فقط ملامسة الفعل السياسي بالمظاهر الشكلية والمسطحة لتلهية عقول طالما غيبها العمل الزمن السياسي منذ عقود ، وتركها بين ظلمة الجهل و إغراء المظاهر البراقة دون مضمون ينمي الفكر والعقل ويمنح للمواطن مكانته كإنسان يتمتع بكل الحقوق ويقوم بكل الواجبات دون تخاذل أو غش .
وهكذا لو حاولنا رصد خطوات المؤسسة البرلمانية طيلة عمرها السياسي منذ 1963 ، هذا العمر الذي كان من الممكن أن يساهم في إخراج هذه المؤسسة التمثيلية من الدور التابع للسلطة التنفيذية الى دور المسائل والمناقش والمقترح لبدائل المقترحات التشريعية التي تتقدم بها الحكومة الى بدائل مقترحات برلمانية ، إلا أن البنية الذهنية البرلمانية والتي تستثمر فقط في واجهة البرلمان وبرلمان الواجهة ،تلك هي حدودها أو إرادتها التي تخفي ما تخفيه لتنال مآربها وراء تلك الأهداف التي تبدو لنا أنها خارجة عن نطاق تطوير العمل البرلماني إلا أنها نخبا سياسية برلمانية تعرف من أين تؤكل الكتف.
وأما بخصوص عملية ترميم واجهة البرلمان، فمن المفيد معرفة تكلفة تلك العملية التي تصرف من أموال الشعب ، ولابد أن نذكر قبل ذلك بالعملية الترميمية الكبرى التي كانت خلال سنة 1984 من القرن الماضي على يد المهندس المعماري يدعى “اندري باكارد ” ، هذه العملية التي كانت عبارة عن القضاء على كل اللمسات المعمارية والفنية القديمة خاصة مكتبة البرلمان منذ السبعينات، و”البكاردية نسبة ل” اندري باكارد” كانت موجة معمارية استلهمت اعلى النخب الحاكمة بالمغرب مما فتح له كل الأبواب من أجل العمل وإبراز “مهاراته ” في عدد من الأمكنة منها فندق المأمونية بمراكش وغيرها من الأماكن التي كانت لهذا المهندس يد في تصميمها وترميمها ، ومن بينها مقر البرلمان خلال رئاسة أحمد عصمان زعيم حزب التجمع الوطني للأحرار ، لمجلس النواب.
أما الترميم الموالي هو الذي جرى قبل سبعة أشهر في عهدة رشيد الطالبي من نفس حزب عصمان ،وكان مبلغها مليار و 300 مليون سنتيما، وأما العملية الثالثة وخلال عهدة نفس الرئيس فأن بعض المصادر تقول انها تدور حول مبلغ مليار و600 مليون سنتيما، فقط لتجديد واجهة البرلمان بغرفتيه من قبل شركة ” أندلس للتزيين ” ومقرها بمدينة فاس، والأكيد أن ترميم واجهة البرلمان مهما بلغت من مبالغ باهضه ومكلفة لميزانية الدولة في ظرفية اقتصادية محرجة تتسم بكثير من التحديات التي تثقل كاهل المجتمع المغربي باسره ، إلا أنها لا تبلغ التكلفة الشديدة الوقع بالنسبة لما تمثله التكلفة السياسية التي تشكلها عملية برلمان الواجهة، تلك التكلفة التي تظل بؤرة سوداء في الفعل السياسي البرلماني خاصة والسياسة العمومية بصفة عامة . ولذلك مهما كان ثقل تكاليف ترميم واجهة البرلمان لن تؤثر كثيرا مقارنة مع الأثار المدمرة التي يتركها برلمان الواجهة، لأن ذلك يشكل خدعة سياسية تنطلي على أولئك الذين همشتهم الفعل السياسي الذي صنع برلمانا كثيرا ما قارنه الدارسون ب “البارشوك ” أي الواقي للصدمات، وسماه البعض الأخر ب “غرفة التسجيل”، وآخرون قالوا عن ساكنيه “بني وي وي” أي أنهم لا يعرفون سوى رفع الأيادي للتصويت بنعم لكل ما قدم لهم من قبل الحكومة من مشاريع دون تفحصها ومعرفة آثارها على كل فئات المجتمع المغربي.
لذا يحق لنا لنتساءل هل ترميم واجهة البرلمان هو تكريس لبرلمان الواجهة؟، التي تستثمر سياسيا، حتى يستكين الشعب ويركن لفكرة أن لنا كائنا سياسيا يمثل الجميع ويعبر عن آمال كل الفئات، فالطالب من خلال تمثيله بالبرلمان سيجد كرسيا في المدرسة ومنحة إن كان والديه لا قدرة لديهم لتعليمه في المدارس الخصوصية التي اجتاحت قطاع التعليم العمومي وحطمت كل أسس المدرسة العمومية التي كانت مصدر كل الكفاءات والخبرات التي بنت مغرب بداية الاستقلال ، كما أن العامل والفلاح ومن لا شغل له يجد في هذه” المؤسسة التمثيلية” للشعب المغربي خير معبر عن كل الحاجيات والمطالب التي تخص المجتمع المغربي في كل القطاعات ، لكن الواقع السياسي والعملي لهذا البرلمان يبدو بعيدا عن كل انشغالات الذين صوتوا له ولمكوناته الحزبية والنقابية ، بل صارت هناك هوة بين النخب البرلمانية ومنتخبيهم ،لدرجة أن النائب أو المستشار لا يعرف الدائرة التي اوصلته للكرسي النيابي ولم يقم يوما لتفقدها والاطلاع على احوالها ، وإن يكن ذلك فلا يعني نه أن لا يضطلع بدوره الدستوري وهو تمثيل الأمة ، وهذا يقتضي دستوريا الحضور لجلسات البرلمان والمشاركة في النقاش وتقديم المقترحات والأسئلة التي تهم قضايا البلاد مجتمعا واقتصادا وسياسة . وما وقع أخيرا من فضيحة غياب عدد كبير من البرلمانيين عن حضور اشغال البرلمان إلا واحدة من عناصر تعطل هذه المؤسسة وتخلي هم من المفروض يمثلون الأمة، عن دورهم بالحضور الجسدي ناهيك عن الحضور الذهني والتشاركي في تفعيل العمل البرلماني بالمساهمات التي تدفع الفعل السياسي بكل تجلياته الى الأمام .
إن البرلمان كمؤسسة تشريعية وتمثيلية جاء بها النظام الديموقراطي لتلعب دور التطابق والتجاوب مع طموحات الشعب والمساهمة في حل إشكاليات القضايا المطروحة على المجتمع في مختلف المجالات، أليس التعريف التقليدي للديموقراطية هو حكم الشعب للشعب؟ إلا أن حال برلماننا المغربي يعمل في إطار متردد ومحتشم وهو يقوم بدوره المحدود، وفق خط لا يستقيم مع ما تعارفت عليه البرلمانات الديموقراطية بالعالم، وذلك دون شك يعود للبنية السياسية التي أريد لهذه المؤسسة لتكون واجهة توحي بتمثيليتها للشعب، في حين أن واقعها الفعلي ليس كذلك، وهذا ما يعرقل المسار الديموقراطي بأكمله ويعكر صفو الفعل السياسي برمته ويضفي عليه التعثر الذي رافقه طيلة الزمن السياسي البرلماني. ومن الأكيد أنه لكي يجد البلمان المغربي مكانته بين نفوس وعقول المواطنين عليه ان يشاركهم همومهم وان يشاطرهم مواقفهم إزاء مشاكلهم وطرق إيجاد الحلول المناسبة لها دون التغاضي عنها وعدم اعتبارها في جدول اعماله.
والعمل البرلماني الذي توظفه السياسة كواجهة فقط لخدمة أغراض ضيقة وإخفاء الفشل في التدبير وعدم الحكامة في التسيير، برلمان لم يصل بعد مرحلة النضج السياسي التي عادة ما تكون البرلمانات في النظم الديموقراطية هي التي تخطط للسياسات العمومية الاقتصادية والمالية والاجتماعية والتعليمية والسياسية، وتدقق في تفاصيلها لتصل كل منافعها لكافة المواطنين وعدم الاقتصار على فئة اجتماعية دون أخرى. فالبرلمان بما انه الناطق بسان حال المواطنين عليه ان تنكب أشغاله وكل اهتماماته سواء المالية -وهو يناقش مشروع قانون المالية او يضع انظمة أساسية لفئة معينة أو يساهم في وضع بنية قانونية شاملة – وهو يستحضر أهميته في التراتبية الدستورية التي تسبق الحكومة، وهذا طبيعي لأنه هو المفروض من يمنح الثقة لها وبالتالي له الحق في طرح تلك الثقة إن لم يتناسب عمل تلك الحكومة للتصريح الحكومي الذي سبق وأن صادق عليه البرلمان،
والمؤسسة التشريعية هي إحدى السلطات التي تصيغ السياسة العمومية ، ولكي تخرج من مجرد واجهة سياسية على البرلمان أن يحرك كل نخبه لبناء برلمان عمق سياسي يغاير كل الأفكار المسبقة على أعماله وهزال نشاطاته وتبعيته للسلطة التنفيذية التي غالبا ما يوصف به أعماله وتصويته عن مشاريع القانونية التي تتقدم بها الحكومة بدون استيفاء مناقشتها والتعميق في كل جوانبها وتداعياتها على كل الفئات ، ولكي تتمكن سلطة البرلمان من تجاوز كل السلبيات التي ظلت لزمن طويل لاصقة بمسارها، لابد أن تتوفر لديها العزيمة والإرادة للخروج من تلك الصورة التي رسمت لها في الخيال الشعبي بل في ذهنية الكثير من المتتبعين لأعمالها ، وذلك من خلال تأكيدها انها مؤسسة تمثيلية حقة من خلال أفعال ملموسة لبلورة الطريق نحو الديموقراطية من خلال الاستجابة للمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وذلك بسن قوانين من شانها أن تضع حدا للتهرب الضريبي وللفاسدين في كل القطاعات والمضاربين في أرزاق الناس وكشف كل بؤر الاعوجاج التي تؤخر مسيرتنا التنموية نحو المحطة الأساس التي تسعى اليها كل طبقات الشعب المغربي، ألا وهي الديموقراطية بكل تداعياتها التي من شانها تقوية أسس البلاد في كل المجالات ، خاصة وان بلادنا تتمتع بموقع مميز يطل على ثلاث قارات وممرات بحرية من شانها ان تساهم في استتباب السلم والأمن الدوليين.
أخيرا وجب التوقف بين واجهة البرلمان وبرلمان الواجهة ، للتأمل في هذه المفارقة السياسية التي بها نريد أن نقطع جسر الديموقراطية للخروج من كل البنيات المتخلفة التي مازالت تؤثث مشهدنا السياسي عموما والمشهد البرلماني خصوصا ، إن ذلك لن يكون مقدما لنا فوق طبق من ذهب لابد من العمل الجدي والتضحية ، فالشعوب عبر التاريخ السياسي تصنع تاريخها عبر التجارب والوقوف حرصا على مصالحها العامة وتثبيت خياراتها السياسية من خلال وضع النخب التي تناسب وتستجيب لطموحاتها ، وان تظل متمسكة ومشاركة في صناعة الفعل السياسي من خلال الرقابة والمحاسبة عبر آليات قضائية وسياسية متمكنة من الحركة المباشرة كلما كان هنا خلل .