الدار/ تحليل
لم ينبرِ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية للتفاعل مع كل ردود الأفعال التي أثارها بسبب تصريحاته الأخيرة حول علمانية الدولة. لكنه خصّص رسالة كاملة للرد على تصريحات رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران. وفي طيّات هذا التخصيص رسالة أخرى مبطّنة إلى من يهمّه الأمر. لكن هذه الرسالة قد تنطوي في اعتقادنا على هفوة تواصلية أخرى وقع فيها الرجل علاوة على تلك التي أفرزت هذا الجدل، عندما كشف أنه صرّح لوزير الداخلية الفرنسي بأن المغرب دولة علمانية. من حقّنا أن نتساءل: لماذا يخصّ وزير الأوقاف زعيم حزب سياسي مغربي بالردّ ويتجاهل في الوقت نفسه الكثير من المواقف والمقالات التي صدرت عن أشخاص آخرين من بينهم دعاة وسياسيون ومفكرون؟
يبدو أولاً أن السيد أحمد التوفيق فهم ردود الأفعال المنتقِدة لتصريحاته الأولى باعتبارها ردودا سياسية وليست فكرية أو مجتمعية. والدليل على ذلك أنه اختار رأس “التمثيل الحزبي للدين” إن صحّ القول للرد عليه. لعل أحمد التوفيق يتصور أن عبد الإله بنكيران باعتباره زعيم أكبر حزب سياسي في المغرب، يمثل الحارس الأمين على الإسلام والتدين في بلادنا، علما أن انتقادات بنكيران كانت بعيدة تمام البعد عن القراءة العلمية والفكرية لقضية العلمانية، وكانت مجرد تفاعل سطحي وبسيط مع مقولة وزير الأوقاف، ولم تخل هذه الانتقادات من الشعبوية والتوظيف السياسوي الضيق. فهل كان من الضروي أن ينساق وزير الأوقاف وراء هذا الجدل الثنائي؟
شجاعة أحمد التوفيق في الرد مُقدّرة، وتحظى بالاحترام الضروري، لكنه يجب ألّا ينسى أننا نعيش في مجتمع يقوم تديّنه أساسا على عدم تمتيع أيّ فاعل سياسي بميزة احتكار المرجعية الدينية، أو الاستحواذ على مقولة الدفاع عنها، أو تأميم قيمها لصالحه. والغريب أن هذا المعنى يتقاطع تماما مع جوانب مهمة وردت في الرسالة التي أشار إليها الوزير. أمير المؤمنين وحده من يمتلك الصفة الدستورية لاحتكار بعض الاختصاصات الدينية باعتباره رئيس المجلس الأعلى للفتوى وحامي حمى الملّة والدين، والضامن لعقيدة الأمة وأمنها الروحي. وهنا يصبح الردّ على شخص بعينه تّجاه قضية من القضايا الجوهرية التي تهمّ الأمة برمّتها نوعا من الاختزال المعيب لأهمية هذا النقاش، ولا سيّما إذا لم يكن هناك تناظر متكافئ بين أطراف القضية.
والخطأ الثاني الذي ينطوي عليه هذا الردّ المخصّص هو أنه يحوّل سجالاً فكريا جوهريا إلى مجرد جدل من جدالات مواقع التواصل الاجتماعي. قضية الدين والعلمانية ليست موضوع أخذ وردّ سطحي وعابر كالذي نتابعه كل يوم في مختلف المنصات بين أشخاص عاديين من مستويات فكرية وثقافية متواضعة حول قضايا تافهة أو غير ذات قيمة. إنها إشكالية لا تستحق التمييع، ومن المفروض أن يترفّع وزيرٌ في مقام أحمد التوفيق عن هذا الجدل، وكان بإمكانه التعبير عن رأيه في مقال محكم وعلمي رصين أو في درس من الدروس الحسنية، دون أن يُفرغ القضية من جوهرها الروحي العميق، بالدخول في جدل مع فلان أو علّان.
وخطورة هذه الهفوة أنها دفعت الرجل إلى كتابة رسالة متسّرعة مليئة بالأخطاء، والمصادرات والمغالطات التي ينطبق عليها المثل الدارج “جا يكحّلها عماها”. على سبيل المثال يشير أحمد التوفيق في سياق تفسير معنى العلمانية وعلاقتها بالسياق السياسي إلى أننا نعيش في نظام اقتبس الكثير من المبادئ والقيم من النظام الغربي العلماني مثل تكافؤ أصوات الناخبين بغض النظر عن معتقداتهم والحريات الفردية وغيرها من مبادئ العمل الحكومي والسياسي. لكن مشكلة هذه الأمثلة التي طرحها أحمد التوفيق في رسالته أنها جاءت فضفاضة وعامة، وقد توحي للقارئ بأنها تمثل انتقادا ضمنيا للمنظومة الدينية الإسلامية باعتبارها خالية من هذه القيم، أو غير قادرة على إنتاج ما يقابلها سواء في الماضي أو الحاضر. والمثير للإرباك في هذا الفهم الجزئي أو الاجتزائي هو أنّ محاولة خوض السجال الفكري في قالب جدلي متسّرع محكوم بإيقاع التواصل الاجتماعي قد أدى للأسف إلى إضعاف محتوى الرسالة التي دبّجها مؤلف “جارات أبي موسى”. لذا؛ لن نبالغ في القول إن المكانة التي يحتلها وزير الأوقاف في هرم الدولة والحظوة التي يتمتع بها وصورة المثقف التي يعكسها لا تسمح له بطرح هذا النقاش إلا إذا كان واثقا من إشباعه بما يلزم من توضيح وكشف وتدقيق.