عند طرح سؤال إمكانية رصد الترجمة لدى جماعة بشرية معيَّنة،تتجلَّى حينها فورا شرارة التَّجاذب الجدلي بين الهاجس الفردي ثم الاشتغال الجماعي،أو بالأحرى التنظيم والهيكلة المؤسَّساتية:كيف يشتغل الحدَّان المتلازمان؟مستويات تكاملهما واختلافهما؟أين مكمن مفاصل حرية الفردي في إطار هذا الهاجس العام؟ما الذي يضيفه أحدهما للثاني؟هل بوسع الفرد أن يكون مذهِلا،دونما حاجة إلى تعضيد الموضوعي؟مثلما يلحُّ سؤال قدرات تطوير المجتمع لمنظومته بكيفية دؤوبة،ارتباطا بمكوِّن بشري منهكٍ ومشلولٍ ومعطَّلٍ، إلخ؟موقع كيان الفرد الواحد وانبثاق ممكناته الذاتية الخالصة،الأسطورية،من عدمه.
آراء أخرى
الترجمة واجهة معرفية صميمة،ضمن مرتكزات أخرى،لذلك عندما نسائل وضع الترجمة في الجغرافية العربية،نلامس حقيقة وأساسا الهاجس المعرفي ودرجات حضوره.يبدو،أنَّ الجواب على استفسار من هذا القبيل،في غير حاجة إلى أدنى مبرِّرات رقمية،وبراهين كمِّية،قصد إبراز الإيجابي أو السلبي،تكفي بهذا الخصوص مجرَّد معاينة مباشرة؛بإلقاء نظرة بانورامية،حتى يستشفَّ الملاحظُ حقيقة المشهد وفق تفاصيل البؤس الكبيرة.
إذن،الترجمة ابنة هذا الواقع اللا-تاريخي على جميع المستويات،إن استطاعت أصلا الارتقاء كي تغدو مؤسَّسة مُهَيْكَلة قانونيا ومعرفيا وإنتاجيا،بمعنى سلطة معنوية تمتلك بكيفية مستقلِّة تاريخا وحاضرا ومستقبلا،وتؤثَّر بفاعلية على مستوى تطور المجتمع وتغيير حصيلة أنساق رؤاه العامة من مرحلة إلى أخرى.
يسهل الإقرار من الوهلة الأولى،بأنَّ الترجمة لم تبلغ عندنا أفق المنظومة المؤسَّساتية،المحكومة بقانون وتطوُّر ذاتيين،في علاقة تفاعلية خلاَّقة مع السياق المجتمعي حسب قانون الجذب والتأثر والتأثير.إنَّها غاية الآن،تعكس في الغالب الأعم،ممارسات فردية ومبادرات شخصية،ينهض بأعبائها أفراد بعينهم،بناء على شغف خاص،ولم تترسَّخ بعد كمشروع مجتمعي بنَّاء،يمكنها وضع المجتمع برمته على سِكَّة منظور تاريخي وكوني. منحى،لازال فاترا،متعثِّرا،بطيئا،مترامية أشلاؤه بين رغبات أفراد يقومون بهذا العمل تحت وازع هواجس ذاتية غير محكومة عموما بنسق فكري ملهِمٍ،محفِّزٍ،سيشكِّل لامحالة نواة جاذبية أوراش عدَّة،تؤسس وتهيكل شتات الأعمال الفردية،المتناثرة هنا وهناك،قصد الانتقال بها وجهة مستوى المشروع المعرفي المجتمعي الذي يتوخى تحقيق نهضة شاملة،وطفرة تاريخية نوعية؛مثلما دأبت الترجمة على فعله دائما بين طيات مختلف الثقافات الإنسانية،فلا نهضة بدون ترجمات،والأخيرة بمثابة جسر لكل منظومة مدنية مجتمعية حقيقية،تضع باستمرار خططا استراتجية لسيرورة المجتمع،بتطويره آليات الترجمة بمفهومها اللغوي والدلالي ثم القيمي؛فالترجمة منظومة قيم تربوية وأخلاقية.
أليس مجتمع الترجمة في نهاية المطاف،بمثابة ترجمة شفَّافة لهويات أفراده الصادقة،دون خوف ولا التباس ولا تضليل،بحيث يُجَسِّد ثراء الترجمة وتبويبها جسور الانفتاح على التعدد الثقافي والاختلاف الفكري،نتيجة عملية التلاقح التي ترتكز عليها الترجمة؟
أقول،يعكس منظور من هذا القبيل لحظة إنسانية بامتياز،يعيش خلالها الإنسان المتعدِّد و اللامتناهي،متصالحا مع وضعه القائم،دون اضطراب ولا كبت ولا تشيُّؤ،بل ماهية خالصة لوجود عيني.مادامت الترجمة،حمولة معرفية موسوعية،تنسج خيوط الحوار الدائم بين الحضارات والثقافات على أساس رؤية مستقبلية دائما للإبقاء على العالم عقلانيا، متوازيا،متَّسِعا،رحيما.
طبعا،مايرتقي بالترجمة نحو هذا المستوى الحضاري المبدع والمفصلي في التاريخ،انتقالها من الاشتغال الفردي إلى البناء المؤسَّساتي والهيكلة الإنتاجية،قدر استثمار ماتتيحه وفق تصور شمولي ومتكامل يندرج أساسا ضمن هواجس بناء المجتمع والإنسان معا وفق مختلف تفاصيلهما،على غرار العصر العباسي خلال عهد المأمون، وتأسيس مدرسة”بيت الحكمة”التي اهتمت بالترجمة والتأليف على مستوى حقول علمية عدَّة،مرورا بالعصر الأندلسي وترجمة كتب اليونان،أو حقبة العصر الحديث مع محمد علي في مصر الذي أرسل البعثات الطلابية نحو أوروبا قصد نقل العلوم إلى العربية،وسطع حينها نجم الشيخ رفاعة الطهطاوي الساهر الفعلي على تلك المشاريع النهضوية من خلال مدرسة الترجمة أو الألسن التي تأسَّست عام 1835،فجعل من سعي الترجمة مؤسَّسة جماعية تحكمها أرضية قومية ووطنية بهدف تحقيق النهضة المنشودة.
الضرورة التاريخية للارتقاء بتراكم الترجمة نحو التبلور المؤسَّساتي،يقطع حتما مع انعدام الرؤية المتكاملة وطغيان الارتجالية،حتى يتحقَّق الإلمام بمقوِّمات العصر وسياقاته وتحدياته وكذا وصل هذه المجتمعات المحكومة دائما بكل سلطات القهر والتخلُّف والانحطاط، بسلطة واحدة لاغير،تكمن في إشعاع الوعي العلمي والمعرفي ومرتكزات القيم التي ترسِّخها الترجمة،وتثبيت منظومة لها تصبُّ حينها وجهة صناعة الكتاب،وبثِّ شغف القراءة أولا وأخيرا لدى الأجيال،كمصلحة قومية لإمكانيات المقاومة واحتمالية البقاء بين طيات نسيج عالم صار طارئا جدا، أكثر من أيِّ حقبة مضت.
تؤكِّد بجلاء لغة الأرقام عن ضحالة الترجمة في العالم العربي،تكفي مقارنة سريعة مع إسرائيل أو إسبانيا،حتى تتضِّح الفجوة،فالعرب البالغ عددهم تقريبا أربعمائة وثلاث وسبعين مليون نسمة يترجمون سنويا أربعمائة وخمسة وسبعين كتابا،بينما إسبانيا التي لايتجاوز ساكنتها خمسين مليون نسمة،فتترجم وحدها سنويا أكثر من عشرة آلاف كتاب. ثم استطرادات ذلك المباشرة حول الوضع المعرفي عموما،ميزانية البحث،مدى حضور العلوم في قلب المجتمع،نسبة المقروئية،مستويات الأميَّة بأشكالها،رمزية الأنتلجنسيا،صناعة الكتاب،حقوق الكتَّاب،أسئلة المدرسة،الوضع الاعتباري للجامعة،مركزية المثقف،إلخ.
قد تظهر متواليات الإحالات متباعدة ومتباينة،غير أنَّ الاستكانة قليلا إلى وقفة تأملية،سيكشف بوضوح التحامها المحوري حول نواة واحدة.
حتما،البيانات فقيرة ومخجلة،قياسا إلى فَلَكية أرقام الجهل والفساد والأموال المهرَّبة ليلا ونهارا،وحكايات السجون الغابرة والمعتقلات الظاهرة وجيوش البؤساء…،معطيات أضحت”مؤسَّساتية”للأسف بدل فعل ذلك مع الترجمة وصناعة المعرفة،تكابدها شعوب المنطقة،لذلك يبدو غالبا بأنَّ خطابا من هذا القبيل عن وضعية الترجمة قياسا لواقع مهترئ، يعكس فقط نمطا من النقاشات المَخْملية،تتسلَّى بها روحيا مجموعة نخبوية صغيرة،بعيدة تماما عن الشأن العام،والقضايا المباشرة التي تتكلم مصالح ملموسة يفهمها الجميع.
الترجمة باشتغالها المؤسَّساتي،إثراء هائل للغة القومية وإحياء مستمر لها،بالتالي الانتقال بأهل تلك اللغة نحو عوالم جديدة تثير لهم حتما صدمات وعي جبرية ولازمة، قصد تحقيق الانبعاث الدائم،والقدرة على الاستمرار وإلا فالانقراض يتربَّص بهم.
إذن،المطلوب مأسَسَة الترجمة،ووصلها بمشروع مجتمعي أصيل،يتطلَّع نحو بناء مجتمع متمدِّنٍ،متوازنٍ بفضل مشارب الترجمة وفلسفاتها ومناهجها.حياة العالم الدائمة، أساسها الجذري الحوار بالتثاقف وتذويب مختلف الحدود السياسية المصطنعة،وتقويض مبرِّرات افتراض صدام حضاري وحتمية صراع مادي،خَلُصت إلى استنتاجها أوليغارشيات الشركات العابرة للقارات،منذ أواخر الثمانينات عندما انطلق بعناوين عريضة التوطُّد المؤسَّساتي لواقع الرأسمالية الاحتكارية،فبدأت سلطة الفكر العميق تتراجع لصالح منطق الرهانات المالية والتحول بالأذواق والأحاسيس الجمالية وجهة الثقافة الاستهلاكية المفبركة والتافهة،التي لاتقتضي ذكاء ولاشعورا ولاحسّا ولا وجدانا ولاكينونة بل ولا إنسانا.