في مواجهة واحدة من أعنف الكوارث الطبيعية التي ضربت إسبانيا، سطر المغرب قصة جديدة من التضامن الدولي، إذ كان من أولى الدول التي استجابت لنداء الاستغاثة بعد الفيضانات المدمرة التي ضربت منطقة فالنسيا في 29 أكتوبر 2024.
ففي خطوة إنسانية لافتة، أعطى الملك محمد السادس تعليماته بإرسال قوافل إغاثة مغربية للإسهام في جهود الإنقاذ والإغاثة للجارة الشمالية للمغرب، في خطوة تحمل الكثير من الدلالات الإنسانية والتضامنية والسياسية، وهو ما لاقى تقديرا كبيرا من طرف الإسبان، ملكًا وحكومة وشعبا.
وعاشت إسبانيا يوم 29 أكتوبر 2024، واحدة من أسوء الكوارث الطبيعية في تاريخها، بعدما تسببت الأمطار الغزيرة الناجمة عن عاصفة “دانا” في حدوث فيضانات مدمرة بمنطقة فالنسيا، وكاستيلا لا مانشا، والأندلس، ما تسبب في مصرع 232 شخصًا، ضمنهم 7 مغاربة، إلى جانب مفقودين، مع أضرار جسيمة في الممتلكات.
وطيلة أيام من العمل المتواصل، سطر أفراد قافلة الإغاثة “ملحمة مغربية” من قلب الكارثة بفالنسيا وضواحيها، إذ واصلوا الليل بالنهار من أجل إزالة أطنان من الأوحال ومخلفات الفيضانات، وتنظيف الأحياء والشوارع والساحات والحدائق والمآرب والمناطق الصناعية، وفك انسداد شبكات الصرف الصحي والقنوات والمجاري المغمورة.
ففي الوقت الذي عاشت فيه المنطقة على وقع الارتباك والذعر جراء الدمار الكبير الذي أحدثه “طوفان الأمطار” بمدينة فالنسيا وضواحيها، انطلقت فرق الإغاثة المغربية لتنقضّ على المهمة الإنسانية التطوعية بكل عزيمة وتفانٍ، مقدمة أروع معاني التضامن الإنساني الذي يميز المغاربة.
الاستجابة السريعة
كان المغرب ضمن أول ثلاث دول سارعت إلى تقديم الدعم إلى إسبانيا في مواجهة هذه الكارثة الطبيعية، إذ بتعليمات من الملك محمد السادس، أرسلت المملكة قافلتين استثنائيتين إلى فالنسيا، تضمان في المجموع 37 شاحنة ضخ وشفط مياه، بالإضافة إلى 103 من التقنيين المتخصصين في إزالة مخلفات الفيضانات.
جاء ذلك بعدما أعطى الملك محمد السادس تعليماته لوزير الداخلية بإجراء اتصال هاتفي مع نظيره الإسباني وإخباره بأن المغرب على أتم الاستعداد لإرسال فرق إغاثة وتقديم كل المساعدة الضرورية لإسبانيا من أجل مواجهة هذه الكارثة الطبيعية.
فبعد أيام قليلة من وقوع الكارثة، وصلت إلى إسبانيا قافلة مغربية محملة بالمعدات الثقيلة والفرق المتخصصة في إزالة الأنقاض، ما أسهم في تسريع عمليات الإغاثة في المناطق الأكثر تضررًا في فالنسيا.
وأعلنت وزارة الداخلية الإسبانية، يوم 13 نونبر الماضي، عن وصول القافلة المغربية الأولى التي ضمت 24 شاحنة من نوع “كوبا”، إلى جانب 70 فردا، للمساعدة في إزالة مخلفات الفيضانات، وذلك عبر ميناء “موتريل” بغرناطة، قبل أن تتبعها قافلة ثانية في دجنبر الماضي، ضمت 13 شاحنة و33 عنصر إغاثة.
وكشف وزير الداخلية الإسباني، فرناندو غراندي مارلاسكا، أمام البرلمان الإسباني، حينها، أن أولى المساعدات الدولية وصلت من طرف 3 دول فقط، هي المغرب والبرتغال وفرنسا، حيث حظيت آليات وشاحنات الإغاثة التي اتشحت بالأعلام المغربية، بتغطية إعلامية لافتة بإسبانيا أثناء وصولها لميناء غرناطة.
وأشار وزير الداخلية الإسباني إلى أن هذه المساعدات كانت ضرورية لدعم جهود الإغاثة، وإزالة المياه والأوحال والمخلفات من المناطق المتضررة، وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة التي خلفتها العاصفة.
قدرة هائلة على التدخل
أظهرت فرق الإغاثة المغربية قدرة استثنائية على التدخل في الكارثة الطبيعية بفالنسيا وضواحيها، وسط إشادة كبيرة من طرف المسؤولين الإسبان، حيث ساهمت الجهود المغربية في عودة الحياة إلى طبيعتها بشكل تدريجي في المناطق المتضررة من الفيضانات.
وقامت الفرق المغربية بإصلاح أكثر من 350 كيلومترًا من الشبكات المتضررة في فالنسيا، بما في ذلك شبكات الصرف الصحي والمياه، بحسب الأرقام الرسمية التي قدمها وزير الداخلية الإسباني، فرناندو غراندي مارلاسكا، الأسبوع الماضي.
ووفق الوزير الإسباني، فإن الفرق المغربية التي تشكلت من 103 أفراد متطوعين، بينهم ضابطين في الوقاية المدنية هما من أشرف على التنسيق والتأطير، تمكنت من تطهير أكثر من 200 مرآب، بينها مرائب تتكون من طابقين غمرتها المياه والأوحال بشكل كبير.
وررغم التحديات التي واجهت الفرق المغربية، على رأسها البنية التحتية المدمرة بالمنطقة، ومشكل اللغة، إلا أنهم تمكنوا من تنظيف مساحة هائلة من الشبكات المتضررة في ظرف شهرين، الأمر الذي ساهم في استعادة السكان لأنشطتهم اليومية.
وبدا لافتا مدى التقدير الذي كنَّه الإسبان إلى أبطال الإغاثة المغاربة، في ظل عبارات الشكر التي كانوا يتلقونها بشكل متكرر خلال عملهم من طرف المواطنين الإسبان.
ويعمل معظم المتطوعين المغاربة في هذه الفرق الإغاثية المغربية، كعمال وتقنيين في شركات الماء والكهرباء وتطهير السائل وشركات المناولة الخاصة بتطهير السائل بعدد من أقاليم وجهات المملكة، وهو ما جعلهم يتمتعون بخبرة كبيرة في إزالة مخلفات وأضرار الفيضانات بإسبانيا.
إسبانيا: سنتذكر دائما مساعدتكم
ولاقى الدعم المغربي إشادة واسعة من طرف المسؤولين الإسبان، حيث قدم رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، شكره للمملكة المغربية على دعمها السريع والفعال لجهود الإغاثة في المناطق المتضررة.
وقال سانشيز في تغريدة للمغاربة نشرها على منصة “إكس”: “خلال هذه الأسابيع الصعبة بالنسبة لإسبانيا بسبب العاصفة، كان التضامن الدولي والأوروبي هائلا. إسبانيا برمتها تشكركم”.
من جانبه، أشار وزير الداخلية الإسباني إلى أن إسبانيا ستظل تذكر دائمًا بامتنان المساعدة القيمة التي قدمتها الفرق المغربية، قائلا: “لقد ترك عملكم الجاد والتزامكم وكرمكم أثرا بليغا في قلوب الإسبان، وستتذكر إسبانيا دائمًا هذه المساعدة الأخوية والتعاون النموذجي”.
واعتبر مارلاسكا أن دعم المغرب لإسبانيا على إثر الفيضانات التي اجتاحت الجارة الإيبيرية يعكس “عمق العلاقات بين البلدين الصديقين والشقيقين”، مشددا على أهمية هذا التضامن الذي بفضله قدم 103 عناصر مغربية مساهمة كبيرة في إعادة تأهيل المناطق المتضررة، وفق تعبيره.
وأشاد مارلاسكا، في شريط فيديو تم عرضه خلال الحفل الذي نظمته السلطات الإسبانية في فالنسيا بمناسبة انتهاء مهمة فرق الإغاثة المغربية، الأسبوع الماضي، بالالتزام الاستثنائي للفرق المغربية التي تم إرسالها بشكل طارئ، طبقا لتعليمات الملك محمد السادس، لدعم جهود الإغاثة في فالنسيا.
وشهد الحفل المذكور حضورا رسميا من طرف عدد من المسؤولين الإسبان، من بينهم ممثلو السلطات المحلية ومنتخبون وأعضاء الدفاع المدني، الذين أجمعوا على التعبير عن امتنانهم للمملكة على هذه المساعدة القيمة، حيث جرى تقديم شهادات تقديرية لأعضاء الفرق المغربية، عرفانا بمساهمتهم الاستثنائية.
بدوره، أشاد ألفريدو ريبيليس فيلالبا، مدير مستشفى فالنسيا، بالجهاز اللوجستي المغربي، قائلا: “لقد ساهم هذا الجهاز بشكل كبير في ترميم البنية التحتية المتضررة”، واصفا عمل الفرق المغربية بـ”الأساسي” في تسريع عملية إعادة تأهيل المناطق المتضررة.
وأشار ريبيليس إلى كفاءة واحترافية وخبرة الفرق المغربية، لافتا إلى أن المغاربة كان لهم إسهام كبير في ترميم البنية التحتية المتضررة، موضحا أن السلطات بفالنسيا وفرت للفرق المغربية مرافق مجهزة خصيصا لهم، لتمكينهم من تنفيذ مهمتهم في أفضل الظروف.
تضامن مغربي فاعل
في هذا الصدد، اعتبرت سفيرة المغرب بإسبانيا، كريمة بنيعيش، أن تعبئة جهاز لوجستي مهم لدعم جهود الإغاثة في المناطق المتضررة من الفيضانات الأخيرة التي شهدتها منطقة فالنسيا، طبقا للتعليمات الملكية، يعكس التضامن الفاعل الذي يجسده المغرب مع الشعب الإسباني.
وقالت السفيرة المغربية بمدريد في تصريح سابق لوكالة الأنباء الرسمية “لاماب”، إن “هذا الدعم يجسد عزم المملكة المغربية الراسخ على المساهمة بفعالية في جهود الإغاثة بروح من التعاون والأخوة مع إسبانيا”.
ومن خلال هذا الالتزام الملكي، الذي تجسده تعليمات الملك محمد السادس، تضيف الديبلوماسية المغربية، “يجدد المغرب التأكيد على تشبثه الراسخ بقيم الاحترام والصداقة والتضامن الفاعل، التي تشكل جوهر الروابط العميقة التي تجمع البلدين”.
وأشارت المتحدثة إلى أن وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج تعبأت على الفور من أجل تقديم المساعدة للمغاربة المقيمين بالمناطق المتضررة من الفيضانات.
وأضافت السفيرة أن “زخم التضامن الوطني مع إسبانيا لقي صدى في صفوف الجالية المغربية المقيمة بإسبانيا، والتي تفاعلت بتعبئة نموذجية للمشاركة في عمليات الإغاثة بالمناطق المتضررة”.
ولم تفوت بنيعيش الفرصة للإشادة بالجمعيات المغربية والعديد من المتطوعين الذين ساهموا بمساعدتهم الملموسة وتضامنهم الجلي في ترسيخ أواصر الأخوة التي تربط الشعبين المغربي والإسباني.
مبادرات الجالية تخطف الأضواء
إلى جانب جهود الدولة المغربية في دعم إسبانيا خلال هذه الكارثة الطبيعية، خطف أفراد الجالية المغربية الأنظار من خلال مبادرات إنسانية عديدة لدعم المناطق المتضررة من الفيضانات بمدينة فالينسيا وضواحيها، بالإضافة إلى بعض المناطق المحيطة بمدينة مالاقا.
ونظم مغاربة إسبانيا، بشكل تطوعي، حملات لجمع المساعدات الإنسانية الضرورية وشحنها إلى الأسر المتضررة، وذلك بالتعاون مع جمعيات المجتمع المدني الإسبانية، وبالتنسيق مع السلطات المحلية الإسبانية لضمان وصول المساعدات إلى المناطق الأكثر احتياجًا.
وفي هذا السياق، قال محمد السعدي، رجل أعمال مغربي مقيم في إسبانيا، “إن هذه المبادرات تمثل جهدا مشتركا مع عدد من جمعيات المجتمع المدني الإسباني، وكذلك مع مؤسسة الشرطة الإسبانية التي ساهمت في تسهيل نقل المساعدات”.
وأشار السعدي في تصريح صحفي، إلى “أنه تم جمع شاحنتين محملتين بالمساعدات الإنسانية، تشمل مواد غذائية وأغطية وملابس وأدوية، وسيتم إرسال شاحنات إضافية خلال الأسبوع المقبل لتلبية احتياجات المناطق المتضررة التي لا تزال بحاجة إلى إمدادات عاجلة”.
ولفت إلى “أن المبادرة تهدف إلى تقديم الدعم العاجل للأسر المتضررة، إلا أن هدفها الأوسع هو تحسين الصورة النمطية عن المغاربة المقيمين في إسبانيا، وإبراز دورهم الإيجابي والفعّال في المجتمع الإسباني”.
وأوضح المتحدث أن “هذه المساعدات ليست فقط لتوفير احتياجات يومية، بل لتعزيز أواصر التعاون والتضامن بين المغاربة والإسبان في مواجهة الكوارث الطبيعية”.
وتجسد هذه المبادرة، وفق المصدر ذاته، “التي انطلقت في أعقاب الفيضانات المدمرة، قدرة الجالية المغربية في الخارج على التحرك بسرعة وفعالية في الأوقات العصيبة، وتعكس التزامها بالمساهمة في التنمية المجتمعية، وتعزيز قيم التضامن الإنساني في مختلف الظروف”.
حصيلة ثقيلة وضحايا مغاربة
وأدت الفيضانات المذكورة، وفق وزير الداخلية الإسباني، إلى مصرع أزيد من 232 شخصا، أغلبيتهم الساحقة في منطقة فالنسيا، وهو ما اعتبرته الحكومة الإسبانية أسوأ فيضانات شهدتها البلاد منذ عقود.
ومن بين هذا العدد الكبير من الضحايا، سجلت القنصلية المغربية بفالنسيا، 7 وفيات إلى جانب مفقودين، وذلك بعدما أعلنت وزارة الخارجية المغربية عن إحداث خلايا أزمة لمساعدة المغاربة المقيمين بالمناطق المتضررة منال فيضانات في كل من فالنسيا ومدريد وإشبيلية.
وشارك آلاف الجنود الإسبان في جهود الإنقاذ في منطقة فالنسيا، كما تطوع آلاف الأشخاص لمساعدة فرق الطوارئ المحلية، وسط دمار واسع في المنطقة، بما في ذلك انهيار الجسور وغمر المدن بالطين وجرف مئات السيارات، وتحولت مبانٍ رسمية مثل مقر المحكمة في فالنسيا إلى ثلاجات للجثث.
وتشكلت عاصفة “دانا” التي أدت إلى الفيضانات، نتيجة تداخل الهواء البارد مع المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، وهو حدث يتكرر في شهر نونبر من كل عام، لكن العلماء يحذرون من أن تغير المناخ يزيد من شدة وطول وتكرار مثل هذه الأحداث الجوية المتطرفة.
وقد أعلنت الهيئة الوطنية للأرصاد الجوية الإسبانية عن تساقط أكثر من 300 لتر من المياه لكل متر مربع ليل الكارثة، وذلك في بلدات عدة في منطقة فالنسيا، فيما شهدت قرية تشيفا الصغيرة أعلى معدل بـ491 لترا لكل متر مربع، ما يعادل “عاما كاملا من التساقطات”، بحسب الهيئة.