“لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف” الملك محمد السادس.
بعد المؤتمر الثاني للبوليساريو الذي انعقد ضواحي تيندوف (غشت 1974) كما رأينا في الحلقة السابقة، استشعرت اسبانيا المديرة للساقية الحمراء و وادي الذهب، خطر تعاظم مكاسب حركة البوليساريو الوليدة التي تطالب باخراجها من الاقليم، فقررت الاسراع في قطع الطريق أمامها او على الاقل مزاحمتها في تاطير السكان المحليين و كسبهم لصالحها.
و لم تكن الادارة الاسبانية تثق في ولاء كبار شيوخ القبائل و خاصة “خطري ولد الجماني” رئيس الجماعة الصحراوية، فعمدت على عجل في اكتوبر 1974، الى استنساخ صورة من البوليساريو، تحت مسمى “حزب الاتحاد الوطني الصحراوي (puns)، تحمل نفس فكرة تقرير المصير و الاستقلال التي تتبناها البوليساريو، و لكن بالوسائل السلمية.
و حتى يختلط الامر على السكان بين “الجبهة” و ا”لحزب” الذين يتبنيان نفس الطرح السياسي، اختارت اسبانيا لقيادة تنظيمها شخصا يحمل نفس جينات قائد البوليساريو. و كان ذلك الشخص هو “خليهن ولد الرشيد”، المتزوج من إسبانية، و إبن عم مباشر ل”الولي”، و مثله قادم من خارج صندوق المجموعات القبلية المهيمنة في الاقليم.
فاجأت التطورات المتسارعة الأطراف المتنافسة في الساحة الصحراوية. إذ قررت الامم المتحدة إيفاد بعثة لتقصي الحقائق إلى الصحراء، حلت بالعيون في 12 ماي 1975، قابلتها البوليساريو بمظاهرات حاشدة رفعت خلاله اعلام الجبهة في كل شارع و زقاق، بينما لم يجد حزب إسبانيا من يرفع راياته، ما اضطر رئيسه بعد ثبوت فشله امام داعميه الاسبان إلى مغادرة الإقليم و الالتجاء إلى المغرب، حيث استقبله الملك الراحل الحسن الثاني في فاس بعد ذلك بأسبوع في 19 ماي 1975.
اواخر 1975 اندلع نزاع الصحراء الاقليمي بالصورة التي شهدها الجميع. استرجع فيها المغرب الساقية الحمراء، و استقرت البوليساريو داخل الجزائر حيث أعلنت عن قيام دولتها في 27 فبراير 1976 برئاسة “الولي مصطفى السيد”.
المغرب الذي استرجع الساقية الحمراء لتوه من إسبانيا، كانت إدارته الحديثة في الاقليم بحاجة إلى وسيط محلي لتيسير التواصل مع السكان المحليين، فأوقعه خياره في نفس الخطأ الاسباني دون ان يدري، بإعادته بعث الروح في النسخة الاسبانية الفاشلة من البوليساريو بعد ان ألبسها لباسا مغربيا.
فاستقدمت الادارة المغربية معها “خليهن ولد الرشيد” المختفي منذ فشله في استمالة الصحراويين لصالح اسبانيا كما أسلفنا. و تدريجيا اعطيت له سلطات دولة داخل الدولة بتكليفه بإدارة شئون الصحراء، و عمره لا يتعدى 28 ربيعا، كما فعلت الجزائر مع ابن عمه و قرينه “الولي” قائد البوليساريو، و قد منحته هي الاخرى سلطة دولة داخل الدولة الجزائرية.
دولة “كرزاي” جنوب المغرب
عين الملك الراحل الحسن الثاني “كرزاي” الصحراء “خليهن ولد الرشيد” كاتبا للدولة مكلفا بالشؤون الصحراوية سنة 1977، قبل ترقيته لوزير على وزارة مستحدثة بنفس الاسم سنة 1984، بالموازاة مع تعيينه برلمانيا عن العيون و رئيسا لمجلسها البلدي.
استمر “كرزاي الصحراء” حاكما مطلقا للساقية الحمراء، جامعا بين صفة الوزير والبرلماني والمسير المحلي تحت عين “إدريس البصري” زهاء 15 سنة قبل ان تلغى وزارة الشئون الصحراوية مطلع التسعينيات.
تقدر المصادر الرسمية المغربية انه في تلك الفترة صرفت الدولة زهاء (6) مليار دولار على تنمية الاقاليم الصحراوية، و لم يكن عدد سكانها يتجاوز بضعة عشرات الآلاف.
و رغم التضحيات الكبيرة التي بذلها المغاربة، و الأموال الضخمة التي رصدت من اجل النهوض بالاقاليم الصحراوية، وجدت الدولة المغربية نفسها مطلع تسعينيات القرن الماضي، تحصد نفس النتائج التي حصدتها اسبانيا من تعويلها على تدبير “خليهن ولد الرشيد” و “ادريس البصري”، مع فارق الزمن الكبير بين رئاسة “خليهن” لحزب ال(puns) التي دامت بضعة اشهر، و سلطته في الصحراء المغربية التي ناهزت في ذلك التاريخ (15) عاما، و فارق الامكانيات و الجهود المبذولة في الفترتين.
ففي اواخر عام 1991 وجد المغرب نفسه يقف على شفا سكتة قلبية استراتيجية قد تفقده الصحراء التي بذل تضحيات جسام في سبيل استرجاعها….
“لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف” الملك محمد السادس.
أولا: مرحلة من 1976 إلى 1991.
أ- الفئة المستهدفة
لعل الكثير من الناس لا يعلم انه حتى تاريخ وقف اطلاق النار 6 سبتمبر 1991، كان عدد الرجال و النساء الصحراويين البالغين بالكاد يصل 40 ألفا في الأقاليم الجنوبية، و قريب منه في مخيمات تيندوف.
و قد رأينا في حلقة سابقة ان مجموع من استطاع اطراف النزاع جمعهم و حشدهم امام مكاتب تحديد الهوية التابعة لبعثة المينورسو، للتسجيل في لوائح من يفترض أنهم صحراويين كان (215289) شخص، و انه تم قبول (84251) من هذا العدد، قريبا من نصفهم في مخيمات تيندوف، و أزيد من النصف بقليل مسجل في الاقاليم الصحراوية بالمغرب، بينما تم رفض أزيد من (131000) طلب، غالبيتهم العظمى من سكان مخيمات الوحدة في المغرب الذين جاؤوا من أقاليم الداخل اواخر عام 1991 للمشاركة في الاستفتاء.
مع نشر لوائح المقبولين و المرفوضين في إحصاء بعثة المينورسو نهاية 1999، وُجد ان عدد صحراوي إقليم الساقية الحمراء و وادي الذهب لم يكن يتجاوز (43000) كاقصى تقدير، ما يفترض انهم عام 1991 كانوا أقل من هذا العدد بالتأكيد. و من عاد إلى أرقام التعداد السكاني للمغرب بين عامي 1982و 1994 سيقف على نفس النتيجة.
“كمشة صحراوة” هؤلاء اختاروا البقاء مع المغرب على الانخراط في البوليساريو، و كانت امامهم فرصة للالتحاق بالجبهة، اقله خلال الاربعة أشهر التي استغرقتها عملية تبادل السلط، و انتهت مع مغادرة آخر جندي إسباني للإقليم أواخر فبراير 1976، و لكنهم لم يفعلوا.
وعلى مدار (15) عاما الاولى، كانت الظروف مواتية لإعادة ادماج هذه الثلة القليلة في نسيج الوطن الأم بعد زهان قرن من الاستعمار. فبسبب الحرب المستعرة، بقيت الاقاليم الصحراوية كما المخيمات شبه معزولة عن العالم، فلا إتصالات خارجية، و لا هوائيات و لا تنقل. لدرجة أن الاب في المغرب لم يكن يعلم شيئا عن إبنه في المخيمات و لا الزوجة تعرف عن مصير زوجها، و أحرى ان تكون هناك رسائل سياسية بين الجهتين.
ب- مجهود الدولة
دعونا نبحث فيما بذلته الدولة من مجهودات في سبيل تنمية “كمشة صحراوة” هذه، و نقتبس من تصريح سابق لوزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية مصطفى الخلفي في لقاء خص به مجلة الحياة اللندنية منتصف عام 2014:
” في مجال البنية التحتية كالطرق والموانئ والمطارات، تم ضخ اكثر من 20 مليار درهم منذ 1975 إلى بداية العشرية الماضية (متم 1999) وذلك من ضمن ما يناهز 90 مليار درهم وجهت للمنطقة ككل”.
وهو رقم ضخم بالتأكيد خاصة بالنسبة لبلد، كان يعيش حالة حرب مدمرة و مكلفة. لكنه دليل على العناية المولوية التي خص بها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني سكان الاقاليم الصحراوية المسترجعة حديثا.
إذا استثنيا (20) مليار التي خصصت للبنى التحتية، و بعملية حسابية بسيطة، سنجد أن نصيب الفرد من “كمشة صحراوة” الذين كانوا يعيشون في الاقاليم الجنوبية قبل نهاية 1991، من ال (70) مليار المتبقية، يزيد على 60 الف دولار سنويا.
وهو من اعلى نسب نصيب الفرد من الدخل القومي في العالم بمعايير اليوم و ليس بمعيار ما قبل 1999.
يتبع..