تصنّف الزاوية الناصرية اليوم تراثا ثقافيا وطنيا وتُشكّل ملاذا للتأمل ومعلمة لا تزال زاخرة بكنوز تاريخية عديدة. وقد تمّ تأسيسها غير بعيد عن مدينة زاكورة، وتحديدا في تمغروت (تامڭروت)
تقديم -عبد الرزاق المراكشي le12
“المغرب بلد الأولياء الصّالحين”.. مقولة تعكس المكانة الخاصّة التي يحظى بها التصوّف في المملكة المغربية، التي يمتدّ فيها الفكر والسلوك الصوفيان إلى أزمنة بعيدة..
لو كنت مواطنا مغربيا، لربّما ساقتك الأقدار لأن تُجاوِر أحدَ هذه المباني الصّغيرة المسمّاة “الزاوية”. فيها تقام الصّلوات الخمس في أوقاتها، باستثناء صلاة الجمعة. كما يُتلى في هذه “الرّباطات” القرآن وتقام العديد من العبادات التعبّدية الأخرى.
بمناسبة شهر رمضان المبارك، تقترح عليكم “Le12.ma” رحلة تاريخية في رحاب أشهر الزوايا والطرق الصّوفية في المغرب.
تصنّف الزاوية الناصرية اليوم تراثا ثقافيا وطنيا وتُشكّل ملاذا للتأمل ومعلمة لا تزال زاخرة بكنوز تاريخية عديدة. وقد تمّ تأسيسها غير بعيد عن مدينة زاكورة، وتحديدا في تمغروت (تامڭروت) التي كانت في عهد التجارة العابرة للصحراء محطة لا محيد عنها للقوافل. فقد ظهرت في هذه البلدة الصغيرة التي تعج نشاطاً وحياةً، إلى جانب التجار ومسافري القوافل، هذه الزاوية، التي تعدّ بمثابة فرع متميّز للصوفية المغربية في منطقة درعة. وقد اشتهرت الزاوية بطريقتها الصوفية الخاصة بها، وصارت منارة علمية كان لها دور استباقي في نشر العلم بفضل خزانة كتبها العظيمة، فضلا عن دورها الديني والاجتماعي المؤثر.
ومؤسس هذه الزاوية هو محمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن ناصر، المزداد في 1085 هـ/ 1674 م. وتعود الزاوية الناصرية الجعفرية الزينبية الشاذلية إلى جذور ضاربة في التاريخ، إذ ظهرت في 1575 م، بعدما استقرّ الشيخ أبو حفص عمر بن أحمد الأنصاري، أحد أعيان درعة وزُهّادها، في تمغروت وأسس فيها زاوية لنشر القيم الروحية عبر طريقته الصوفية النابعة من السنة النبوية. وقرناً بعد ذلك، جعل الشيخ سيدي محمد امحمد بن ناصر، الذي عُرف بورعه وحصافة رأيه، من الزاوية مركزا ثقافيا رحباً، وجهّزه بمكتبة كبيرة، فانتشر إشعاعها إلى باقي ربوع المغرب وتعدّاها إلى بلاد السودان.
وبفضل ذلك، صارت معروفة باسم الزاوية الناصرية، وأضحى لها تأثير روحانيّ واجتماعي واقتصادي وسياسي واسع. ويقع قبر الشيخ مؤسّسها غير بعيد من مدخل الزاوية، إذ يرقد جثمانه في ضريح باسم “حديقة الشيوخ”، تكريما لذكرى كبار الصوفيين الذين صنعوا تاريخ الطريقة الناصرية المتميزة.
وتُلحق بالزاوية مكتبة مخطوطات تُعد من أثرى المكتبات في المغرب والعالم الإسلامي قاطبةً. أسسها الإمام أبو العباس أحمد الناصري لتعزز دور الزاوية المركزي وإشعاعها الديني، حيث استقطبت العلماء والطُلبة المتعطشين للعلم للاغتراف مما تكتنزه مجموعات المؤلفات والمخطوطات المحفوظة بها. وتضم المكتبة حوالي 4 آلاف مؤلف، وهي اليوم تؤوي أعمال عريقة في علوم الدين، والتاريخ، والعلوم الحية، والطب من مختلف مناطق المغرب، والأندلس، والشرق الأوسط (المدينة، وإسطنبول، والقاهرة)..
وتضمّ المكتبة نفائسَ تتشكّل من بين آلاف المخطوطات المحفوظة فيها، منها مصاحف مزخرفة وأبحاث في علوم الرياضيات والفلك والتنجيم والأدوية، إضافة إلى نسخ لأنفس المصاحف المخلدة لذكرى مرور 300 سنة على نزوله ونسخة عربية لأحد مؤلفات الفيلسوف اليوناني فيتاغورس تعود لأكثر من 500 عام، نهاهيك عن مخطوطات أخرى لعلماء مسلمين أفذاذ، أمثال ابن سيناء وابن رشد والخوارزمي.
لقد مرّت على المغرب أحداث سياسية وتاريخية عديدة، وكان للحياة الدينية دور مهمّ في نشر الوعي وتثقيف الناس، إضافة إلى لعب التجمعات الدينية في المساجد ومجالس العلم دورا مهما في خلق الرأي العامّ تحت قيادة المخزن المأمور من لدن السلطان. وحرصت السلطة العليا في المغرب، بحسب مقالة لإيمان الخزامى، على الإمساك بزمام القيادة الدينية وتوجيه الأمة في نطاق الإسلام حسب مفهومها الذي قد يختلف شكلا وجوهرا من ظروف إلى أخرى، اعتمادا على المسجد أوليا.
ومع ظهور الفصائل الروحية الملتفة حول السلطان، تمكن مؤسسوها من زيادة كم الوعي المعرفي والديني ونشر العلم وتربية الناس في أمور دينهم ودنياهم بعيدا عن الزوايا التي كان أتباعها يلحقون الأذى بأنفسهم، مثل الحمدوشيين، الذين كانوا يقومون بشدخ رؤوسهم بالفؤوس، ما كان غير مقبول من طرف السلطة وغير مستحب من جهة الزوايا الأخرى مثل الناصرية والكتانية والأطراف المتصوفة.
وتضم الزاوية الناصرية، بحسب الخزامى، أكبر وأعرق مكتبة بعد تلك الموجودة في القرويين، وقد شيّدها أبناء المنطقة من الطوب الجيد وباستعمال أساليب بناء تم جلبها من مدن الشمال وأخرى مستوردة من جزر الكناري. وفي أغنيته التراثية، ذكر الفنان المغربي نعمان لحلو، بحسب المصدر نفسه، الزاوية الناصرية قائلا:
وتاكونيت الأزلية والزاوية الناصرية *** أحفاد إبراهيم الخليل
بنــاو لقــصر طــوبة طوبة *** وعــاشو بالعشرة والنية
ووصف الفنان المذكور، في تصريحات صحافية، بأنها كانت مهدا للشرفاء، مشيرا إلى أن البحث في تراث هذه المنطقة صعب جدا نظرا إلى تنوعه وارتباطه الوثيق وتداخله.
وقد ظهرت للزاوية الناصرية أزيد من 360 فرعا في المغرب، وكل فرع له إشعاعه الخاص، إذ ما زال عطاء الزاوية الناصرية مستمرا إلى الآن ومتواصلا لنشر العلم والمعرفة وتأهيل الطلاب الوافدين أيضا من جميع بقاع العالم. وصنفت الزاوية الناصرية، وفق المصدر نفسه، كأول وأقدم وأغنى زاوية في المغرب والأوفر مالا، إذ لها أملاك في مختلف جهات المغرب.
وبحسب ما جاء في مقال الخزامى، فقد كادت الزاوية الناصرية تتعرض للتصفية في مطلع القرن الـ13 الهجري، رغم أنها لم تقم بأيّ نشاط سياسي يذكر عبر تاريخها الطويل. وكانت السلطة تنظر بشيء من القلق إلى الزاوية ونفوذها الذي يتيح لشيوخها الإفلات من قبضة المخزن.
وقد كاد ابن مؤسس الزاوية الناصرية، المسمى أحمد بن محمد بن ناصر، وفق ما أورد الناصري في “الاستقصا”، أن يتعرّض للهلاك، نظرا إلى توغل الزاوية وتجذرها دينيا وعلميا. وبحسب الروايات التاريخية الأخرى، فقد كان المخزن متضايقا من ثروات الزاوية الطائلة التي لا يعرف لها موقف سياسي أو تبعية خارجية، بل إن الزاوية الناصرية ظلت مخلصة لعرش السلطان ومجتمعة بكل أطيافها حوله، ملتزمة بتعاليم السنّة.
وأفاد عمر مزواضي بأنه في 1645م /1055 هـ انتقل مْحمد بن ناصر (وهو شاب وطالب علم) من مسقط رأسه بقصر أغلان الواقع بخميس ترنانة في منطقة وادي درعة إلى تمكروت بحثا عن شيخ يسير على نهجه التربوي والعلمي، فالتقى بالشيخين أحمد بن إبراهيم الأنصاري وعبد الله بن احساين الرقي القباب، فأعجب به هذا الأخير أيما إعجاب.
وتولى الشيخ محمد بن ناصر أمر زاوية تامكَروت بعد مقتل الشيخ أحمد بن إبراهيم الأنصاري سنة 1052 هـ /1642 م، فأعطى للزاوية دفعا جديدا، فركز في بداية الأمر على الخروج بالزاوية من مرحلة التأسيس إلى مرحلة التقعيد، ومن الإعتماد على الغير إلى الإكتفاء الذاتي عبر توفير قاعدة اقتصادية صلبة للزاوية، فتحولت الزاوية أيام مشيخته ومشيخة ابنه أحمد ابن ناصر (1057 هـ/ 1647 م 1126 هـ/ 1714 م) إلى أهم زاوية في الجنوب المغربي على الإطلاق، لكثرة أتباعها وتعدد طلاب العلم بها، كما تحولت إلى أكبر سوق تجارية تلتقي فيها القوافل من كل الأصقاع.
وقد غلب الطابع الصوفي على الزاوية الناصرية في مراحلها الأولى، بحسب مزواضي، فكان شيوخها الرئيسيون يلقنون فيها الأوراد الشاذلية، ولا يشتغل إلى جانبهم في التدريس سوى بعض العلماء الزائرين، إلى آل استقر فيها الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي، وكان متمكنا من علوم الظاهر والباطن، فأمست معلمة علمية ودار كتب يحج إليها الطلبة من جميع أصقاع المغرب.
وكان يدرس فيها كثير من العلوم كالفقه والحديث والكلام والتصوف والعربية وقواعدها، وغيرها؛ حتى أن العلامة أبو علي اليوسي جعل طالب العلم يستغني بشيوخها، في ميدان الترقي في الطلب، عن التوجه إلى المراكز العلمية الكبرى في العالم الإسلامي يومئذ.
ونظرا إلى السياق الزماني والمكاني اللذين ظهرت فيهما الزاوية الناصرية، والذي تميز بالتأزم والإضطراب، فقد انتدب محمد بن ناصر الدرعي نفسه، وفق المصدر نفسه، للقيام بمهمة إصلاح ما أفسده الزمن، فتصدى لنشر العلم ومحاربة الانحراف، وتمهيد السبل عن طريق التربية الصوفية.
وقد عرف عن الشيخ محمد بن ناصر الدرعي وخليفته أحمد بن ناصر دفاعهما عن السنة ومحاربتهما للبدعة، كما اقتصرا على آذان واحد لصلاة الجمعة، ولم يكونا يدعوان للسلطان على المنابر، ومنعا السماع الذي كان مألوفا عند كثير من متصوفة عصرهما. كما جاهرا برفضهما للبدع والعادات الفاسدة، وخاصة شرب الدخان وتناول الخمور، وحرما اختلاط الرجال بالنساء في المواسم والأعياد.
وتابع مزواضي أن الشيخ محمد بن ناصر الدرعي حرص على توظيف ورد غير بعيد عن الأذكار المأثورة، بحيث لم يدع إلى اتخاذ شارات خاصة، وقد جعل ذلك الورد الناصري وردا بسيطا مستجيبا لمختلف الطباع والمستويات، فلاقت بذلك الطريقة انتشارا واسعا وقبولا كبيرا لدى مختلف شرائح المجتمع.
وقد ازداد انتشار الطريقة الناصرية واتسع مجال انتشارها بفضل تنظيم الطريقة لركب الحاج الناصري، والذي أضحى بمثابة زاوية متنقلة، فتأسست فروع ناصرية في مختلف المدن والقرى على طول الطريق بين المغرب والحجاز. وبذلك أسهمت الزاوية الناصرية في تمهيد الطريق أمام الحجاج، ومد جسور التواصل بين مختلف بلدان العالم الإسلامي على الصعيدين العلمي والصوفي.
توسعت الزاوية في عهد أحمد بن مَحمد بن ناصر الدرعي، الملقب بأحمد الخليفة، وازداد إشعاعها الروحي والعلمي، بحسب المصدر المذكور، إذ أسس بجوار الزاوية مدرسة لإيواء الطلبة وواصل عملية استقطاب الأساتذة من مختلف جهات المغرب، وألحق بها خزانة جلب إليها أنفس الكتب من المغرب والمشرق، عن طريق النسخ والشراء، مع العلم أن بداية تأسيس الخزانة كان في عهد والد محمد ابن ناصر.
فتأسيس مكتبة الناصريين يرجع إلى عام 1040 هـ/ 1630 م حين انتقل الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي إلى زاوية تمكروت لنشر العلم ثم لتربية المريدين، ولم يكن يملك حينئذ غير مجموعة كتبه ملقاة في ركن البيت الذي ينام فيه الشيخ وأهله، ولما تحسنت الحالة المادية بعد ذلك تحسنا نسبيا، وتكاثر عدد الوافدين عليه من المريدين والطلبة، وازداد عدد الكتب بما نسخه الشيخ وأهله وطلبته وبما أهدي إليه، ثم خصص بيتا للكتب حين جدد بناء الزاوية ومرافقها.
وفي 1123 هـ/ 1711 م شيد أحمد الخليفة بناية خاصة لاحتضان الخزانة وعين لها قيما ليشرف على تسييرها، وسن لها نظاما عجيبا للإعارة، وأمر بترتيب محتوياتها حسب الفنون، وأوصى بتوسيعها والمحافظة عليها. وحرص على إتقان بناء الخزانة فجلب إليها الشيخ الصناع من مدينة فاس، وزينت نوافذها بزجاج ملون. كما أسس الشيخ أحمد الخليفة زاوية جديدة، سماها زاوية الفضل عام 1115 هـ /1703 م، في موقع يقع جنوبي تمكروت، تضمنت هي الأخرى مسجدا جامعا، وأنزل بها إحدى زوجاته، وهي زينب بنت أحمد التِّنَرْدَنِيَة للإشراف عليها.
ومن العلماء الذين وفدوا على الزاوية للتدريس بها من غير الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي نذكر: أحمد بن محمد ابن مسعود التمكروتي (ت بعد 976 هـ/ 1569 م) وعبد الله بن محمد ابن مسعود التمكروتي (ت. بعد 980 هـ/ 1572 م) وأحمد بن محمد الجزولي وعبد الكريم بن علي التدغي (ت. 1132 هـ/ 1720) وعبد الرحمن بن عبد القادر السويدي المكناسي والحسين بن محمد الشرحبيلي (ت. 1142 هـ/ 1729 م) وأحمد بن محمد الكنسوسي (1164 هـ/ 1751 م) ومحمد بن ناصر المراكشي (ت. 1140 هـ/ 1728 م).
كما تخرج أيضا منها علماء وأدباء كبار، أشهرهم بحسب المصدر ذاته، العلامة الحسن اليوسي صاحب الدالية المعروفة في مدح الشيخ ابن ناصر، وعلي المراكشي وأبو سالم العياشي ومحمد بن سليمان الروداني وعبد اللطيف الفيلالي وأحمد التستاوتي وأبو العباس الهشتوكي وعبد الملك بن محمد التجموعتي ومحمد بن عبد الله الحوات وعبد القادر الفاسي والتاودي بن سودة المري، وابن الحاج السلمي.