يرجع المتسوقون في السنوات الخصبة وقد علّقوا قالبيْن مقرونيْن متدليين خارج الشواري كدليل على الغنى والنخوة العبدية.
لأن أهل عبدة هم الأكثر حرصاً على المظاهر الخارجية، وإخراج ثلاثة قباب خلف القفا كعنوان على ارتداء ثلاث جلابيب مختلفة الألوان والنّسيج .
حسَن الرّحيبي
من يتذكّر شمعاً بهذا الإسم المُبهج المتفائل في نهاية الخمسينات وبدَاية السّتينات.
لم يكن بالإمكان شراء شمع إلّا بصورة فلّاح يحصد الزرع الوَفير في عام الصّابة حين كانت الأمطار غزيرة والأرض خصبةً خاليةً من المبيدات والأسمدة الكيماوية.
كان كل شي بيو bio .
وكلّ شمع غير عام الخير يعتبر « حرامي » . كما كان الفلاّح لا يشتري قالب السكّر إلّا بعد إدخال أصبعه في مؤخرته حتى النهاية ليتيقّن بأنه « سكر النّمر » .
ولا يثق في الصورة الجانبية التي قد تختلط في ذهنه مع صورة الفهد أو الجّاگوار والجّرانة بذوق يتميّز بالحموضة وسكر العاود والغزالة شديد الصلابة الذي انقرض منذ ذلك الزمان .
يرجع المتسوقون في السنوات الخصبة وقد علّقوا قالبيْن مقرونيْن متدليين خارج الشواري كدليل على الغنى والنخوة العبدية.
لأن أهل عبدة هم الأكثر حرصاً على المظاهر الخارجية، وإخراج ثلاثة قباب خلف القفا كعنوان على ارتداء ثلاث جلابيب مختلفة الألوان والنّسيج .
مع علبتيْن من الشاي الأخضر المنارة بخمس نجوم إذ كنا نحن الفقراء نتناول أتاي الاوداية بلون أصفر ونجوم أقل . أو أتاي القافلة وأرخصها وأحقرها شاي النسر …
أما المنتوجات المحلية فكانت تتمثل في عصيدة الذرة المفرششة بطاحونة ولد عايشة أو طاحونة ولد الهردازي البعيدة غرباً أو طاحونة ولد بلبريبري .
نطبخها يوم الجمعة بحمّاس طيني كبير الحجم مع الحرص على الابتعاد منه عند الغليان لما يصدر عنه من فقاعات نارية جد ساخنة ثم تضيف إليه امّي حليمة نخضة كاملة من الزبدة أخرجت تواً من جوف الشكوة .
نستلذ بمذاق متعة لا يمكن الحصول عليها اليوم ثم الذهاب إلى كتّب المسجد دون نسيان « الجّمعية للطالب » وتقتصر يوم الجمعة على الزبدة.
بخلاف يوم السبت والأربعاء حين تكون « لاربعية » وهي حصة من القروش أو تكون عينية من البيض …
في بداية الربيع تبدأ القطاني خاصةً الفول والجلبانة بالنضوج طبقاً للمثل الدكالي الشهير : ابريل فين ما شتّ الفول ميلْ ! .
أي يستحيل في شهر أبريل أن تجد حقلاً للفول غير ناضج .
كما يبدأ الفلاحون بشحذ المحاشّ (مناجل من صنع محلّي ) والمناجل يوم السوق عند أوراش الحدادين الذين انقرضوا اليوم إلا البعض القليل منهم .
لباس خاص أو « التّباندة » وهي واقية متينة لسفا السنابل الحادة مع لباس « وندية »وهي شبه جلّابية بدون أكمام وطولها لا يتجاوز الرّكبتين .
تشترى « صبّاعات » من القصب لوقاية أصابع اليد اليسرى من حدّ المناجل الرومانية (من رومانيا الاشتراكية)بينما تختص اليد اليمنى بحمل المنجل وصناعة الغمارة ابتداءً من « الدّقُم » والثانية تحملها في انتظار اقتراب وقت الغذاء يشرع أحد الفلاحين الحكماء في الذكر والتغني بالرسول وأولياء اله الصالحين.
نعود بعد الظهر، محملين بالشواط الذي التقطناه وعراريم من الفول وعبر الطريق تقطف أمي سنابل القمح في بداية نضجها ونساعدها كي نجني أكبر حزمة من قمح الناس.
لم نكن نزرع القمح الذي هو خاص بالأغنياء أصحاب الأراضي بينما نحن كنا مجرد “خبازة” لا حق لنا سوى في زراعة الشعير والذرة وسائر القطاني غير الحمص..
ولما يحتج أحد أصحاب الحقول تجيبه أمي بصرامة : مالنا ما نذوگوش لفريك ؟ ما حشوماش ما نذوقوش راس العام ؟ ليصرخ آخر من بعيد : اتا زيد مع بهايمكم آذاك البعلوك ولا كممهم !.
نصل للخيمة نضع شواري الربيع والشواط.. تعزل أمي سنابل القمح .
تشعل النار لتطبخ الخبز وفي نفس الوقت تشوي الفريك اللذيذ.. دون نسيان إحراق جذور الداد لأنها تطرد الذبان من الخيمة الذي يتكاثر حول الروارب والشكوة ورائحة حموضة اللبن..
كما تعلق بجدار النوالة أم ظهر نبتة الذبان اللاصقة بنوارة قرمزية جميلة.. هكذا كنا نعيش من الطبيعة ونحارب حشرات البيت بنباتات طبيعية قبل ظهور الورقة الصّينية السامة بلون أحمر..
رحم الله جدي العسيري، من سيد الدّراوي الذي توفي في سنة 1907 عام رابت دار البغلي بعد نومه فوق سانية البغلي المسكونة وهو يرعى ناقته.
وصديقه الگُطّاية من دوار البوعيْشات الذي لم يعد اليوم موجوداً ولم يتبقّ منه سوى آثار المطامير كدليل على الثراء الذي ساد ثم باد في مكان المركز الفلاحي الحالي وخيمة العبدي وبلبريبري.
أما مقابرهم فحول ضريح سيد المشاوري (مشاوري بنيفّو) ثم فيما بعد روْضة البوعيشات قرب مدرسة الغربية مع حوْش ضريح كنت أزوره كل أحد صحبة مامّا اسمه « لالّة حمْرية » نوزع عليه حفنةً من الشعير تبقت لنا مما وضعناه بضريح سيد لمشاوري وحوش سيدي امحمد بلعربي تشطبهم مامّا بشطابة من السدر وتتلو دعوات قاسية على أمّي (طفلتها أو لوستها حين كانت عداوتهما مترسخة ولدودة مثل المُشّ مع الفأر ).
وفي سيد لمشاوري تلتوي داخل حصيرته متضرعة لمدة غير قصيرة .. ثم نعود للخيمة في انتظار يوم السوق أي يوم الإثنين الذي كان عندنا بمثابة يوم العيد …