لا يتعلق الأمر بهجرة عكسية، ولا موضة عابرة، أو حتى منفى اختياريا، ولكنه استجابة لنداء الطبيعة الذي لا يقاوم. وبالفعل، اختارت أعداد متزايدة من الساكنة الحضرية الاستقرار في البادية بحثا عن تغيير جذري في نمط الحياة.
فهل يتعلق الأمر بظاهرة اجتماعية حقيقية؟ من المبكر جدا إصدار حكم في هذا الشأن، لكن ما هو مؤكد هو أن البادية باتت تستهوي المزيد من سكان المدن، الباحثين عن فضاءات مفتوحة وهواء نقي، بعيدا عن صخب الحياة العصرية للمدن الكبرى.
ويظهر هذا الواقع جليا في سائر أنحاء المملكة، لاسيما في جهة الدار البيضاء – سطات، حيث أصبح من الشائع ومنذ سنوات طويلة رؤية مساكن مبنية وفق معايير العمارة الحديثة في البادية، بشكل يتعارض مع النموذج التقليدي السائد في المناطق القروية.
يمثل مالكو هذه المساكن كل الفئات الاجتماعية والمهنية تقريبا، مع قاسم مشترك يتمثل في تلك الحاجة الملحة إلى الاستمتاع بالهدوء والفضاءات الواسعة، وكذا العودة إلى الجذور في أرض الأجداد.
هذه الفئة تمثل عموما الموظفين المتقاعدين الذين يشعرون، بعد جهد تم تكريسه لتربية وتمدرس أبنائهم وبعد مسار مهني حافل، بالحاجة إلى إحياء الروابط مع الطبيعة، والعيش ببساطة أكبر، دون إكراهات الزمن في هذا العالم الذي يتحرك بسرعة متناهية.
وفي هذا الصدد، قال خالد، في بوح لوكالة المغرب العربي للأنباء، وهو لا يخفي سعادته بالعيش دون ضغط والتحرر أخيرا من كل الإكراهات والعادات التي تفرضها الحياة الحضرية والتي عزلته عن الطبيعة لفترة طويلة، “قبل فترة طويلة من تقاعدي، كنت أفكر في الاستقرار بشكل دائم في القرية التي ولدت فيها قبل ثلاثة وستين سنة، بالجماعة القروية امزورة، على بعد حوالي ثلاثين كيلومتر غرب مدينة سطات”، مضيفا “لقد حانت الفرصة وعدت إلى قريتي بعد أزيد من ثمانية وثلاثين سنة قضيتها بمدينة الرباط في سلك الوظيفة العمومية”.
بالنسبة له، “لا شيء يضاهي الطبيعة، حتى وإن كانت المدن المغربية اليوم تولي أهمية كبيرة للفضاءات الخضراء”. ولهذا، فقد عمل على استثمار كل مدخراته في بناء منزل بالبادية مجهز بألواح الطاقة الشمسية مع حديقة كبيرة تضم عددا من أشجار الفواكه والخضروات.
وأكد أيضا أنه أضحى، منذ استقراره بمسقط رأسه، ينعم بالهدوء والطمأنينة وتحسن ملحوظ في قدرة جسده على مقاومة الأمراض، خاصة نزلات البرد والصداع. كما أنه لم يعد يشعر بالحاجة إلى قيادة سيارته سوى للذهاب إلى السوق الأسبوعي بأولاد سعيد كل يوم أربعاء.
لقد تم إثبات هذه الفوائد الصحية للطبيعة علميا عدة مرات. ومؤخرا، كشف باحثون نمساويون من جامعة فيينا، في دراسة نشرت في 13 مارس في مجلة (Nature Communications) “نيتشر كوميونيكيشنز”، أن التعرض للطبيعة، حتى افتراضيا، له تأثير مسكن من خلال التأثير على نشاط الدماغ.
وسعى المشرفون على الدراسة إلى معرفة مدى تأثر هذه المناطق المختلفة بالتعرض لمناظر طبيعية وحضرية وداخلية. وللقيام بذلك، سجلوا نشاط الدماغ لمجموعة مكونة من 49 متطوعا باستخدام جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي. وأثناء مشاهدة المشاركين لمختلف الصور، تعرضوا لسلسلة من الصدمات الكهربائية المؤلمة بدرجات متفاوتة على ظهر اليد اليسرى.
النتيجة: لقد أجمع المشاركون في هذه الدراسة على شعورهم بألم أقل عند مشاهدة المناظر الطبيعية.
ويعتقد أصحاب الدراسة أن هذه النتائج يمكن تفسيرها بكون المناظر الطبيعية تحتوي على عناصر تجذب انتباه الإنسان بطريقة فريدة وسهلة، مما يصرف الانتباه عن الإحساس بالألم. وللإشارة، هناك أطروحة معروفة في علم النفس باسم “نظرية استعادة الانتباه”.
ومن شأن هذا الاكتشاف أن يفتح آفاقا جديدة للأبحاث الرامية إلى فهم أفضل لكيفية تأثير الطبيعة على العقل والجسم البشري، كما أن بإمكانه تشجيع أولئك المترددين في التخلي عن كل شيء والتوجه نحو البادية، أو على الأقل بناء مسكن ثانوي هناك. هذا بالطبع لمن توفرت لهم الإمكانيات، والأهم من ذلك الرغبة.
أما أولئك الذين لا يتوفرون على الإمكانيات ولا يرغبون في قضاء بقية حياتهم في القرية، فهناك بديل يتمثل في دور الضيافة التي تضاعف عددها بجهة الدار البيضاء – سطات، مما يتيح لقاطنيها فرصة التواصل مع الطبيعة.