مشروع القانون التنظيمي للإضراب رقم 97.15 بعد مصادقة لجنة القطاعات الاجتماعية بمجلس النواب عليه يُثير جدلاً كبيراً في الساحة القانونية والاجتماعية المغربية، خاصة بالنظر إلى الدور الحيوي الذي يلعبه في تنظيم حق دستوري أساسي نص عليه الفصل 29 من دستور 2011. هذا الحق يعتبر أحد أبرز مظاهر التعبير الجماعي في المجتمعات الديمقراطية، حيث يتيح للعمال والنقابات الدفاع عن مصالحهم. غير أن القراءة المتأنية لمشروع القانون تُظهر العديد من الإشكاليات القانونية والاجتماعية التي تهدد جوهر هذا الحق وتضعه في مواجهة مع مقتضيات الدستور.
نص مشروع القانون التنظيمي يفرض شروطاً مشددة على ممارسة الإضراب، مثل إلزامية الإشعار المسبق الذي يتطلب إخطاراً يُرسل قبل عشرة أيام من موعد الإضراب. هذا الإجراء يُنظر إليه على أنه يقيد بشكل كبير قدرة النقابات والعمال على التعبير الفوري عن مطالبهم، خصوصاً في القطاعات ذات الإيقاع السريع مثل النقل أو الصناعة، حيث قد تُصبح مطالبهم بلا جدوى إذا تأخر الرد عليها. إضافة إلى ذلك، يشترط المشروع أن يتم اتخاذ قرار الإضراب داخل النقابات بآليات جماعية، وهو أمر قد يبدو إيجابياً من حيث تعزيز الديمقراطية الداخلية، لكنه في الواقع يُثقل العمل النقابي ويُعقد الإجراءات الإدارية.
من أكثر المقتضيات إثارة للجدل تلك المتعلقة بمنع الإضراب في القطاعات الحيوية، التي لم يحدد المشروع معايير واضحة لتعريفها، مما يفتح المجال أمام التأويلات المختلفة. هذا الوضع قد يؤدي إلى إدراج قطاعات أساسية للعمال ضمن قائمة الممنوعات، مثل التعليم والصحة، رغم أنهما قطاعان يُمثلان الساحة الأكثر نشاطاً للإضرابات في المغرب. تقارير النقابات تُشير إلى أن 60% من الإضرابات التي سُجلت خلال العقد الأخير حدثت في قطاعي الصحة والتعليم، وفقاً لتقرير المندوبية السامية للتخطيط لعام 2021. هذه النسبة تعكس مدى الحاجة إلى إطار قانوني يضمن التوازن بين ضمان استمرارية الخدمات العامة وحماية الحق في الإضراب.
التوجه العام للقانون التنظيمي يبدو مفرطاً في ضبط الحريات، إذ يتضمن عقوبات جنائية ضد من يعطل العمل أو يعرقل غير المضربين، وهو ما قد يُستغل لتقويض الحريات النقابية. دراسة صادرة عن المركز المغربي للدراسات الحقوقية أشارت إلى أن مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى انخفاض الإضرابات بنسبة تصل إلى 40% خلال السنوات الخمس الأولى من تطبيق القانون، ولكنها ستزيد في الوقت نفسه من حدة الاحتقان الاجتماعي وتُفاقم الأزمة بين النقابات والحكومة.
غياب الحوار الاجتماعي أثناء إعداد المشروع يُعتبر نقطة ضعف أساسية. النقابات الأكثر تمثيلية انتقدت بشدة عدم استشارتها بشكل كافٍ، معتبرة أن النص الحالي يُمثل انحيازاً واضحاً لأرباب العمل على حساب حقوق العمال. بل إن بعض الهيئات النقابية، مثل الاتحاد المغربي للشغل، وصفت المشروع بأنه “خطوة نحو تقليص الحريات الدستورية”، مستندة في ذلك إلى تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي لعام 2022، الذي دعا إلى ضرورة صياغة القانون التنظيمي للإضراب بطريقة تضمن مشاركة جميع الأطراف.
الأثر الاجتماعي للقانون قد يكون كبيراً، خاصة في ظل تزايد التوترات الاجتماعية المرتبطة بارتفاع معدلات البطالة وتدني الأجور. وفقاً لإحصائيات المندوبية السامية للتخطيط لعام 2023، فإن معدل البطالة في المغرب بلغ 12.1%، وهو ما يُشكل بيئة خصبة لتصاعد الاحتجاجات والإضرابات. هذا الوضع يجعل من الضروري إعداد قانون يُحقق التوازن بين احترام الحقوق الدستورية واستمرارية الخدمات.
على المستوى القانوني، يُثير المشروع تساؤلات حول مدى توافقه مع الدستور، خاصة في ما يتعلق بفرض القيود على الإضراب. الفصل 29 من الدستور ينص بوضوح على ضمان الحق في الإضراب دون أي تقييد يفرغه من مضمونه. ومع ذلك، فإن مشروع القانون الحالي قد يواجه بالرفض من المحكمة الدستورية إذا لم يُعدل ليُعالج الثغرات التي تضعف حماية هذا الحق قبل خروجه من البرلمان.
لضمان التوافق بين مقتضيات المشروع وروح الدستور، ونحن لحد الساعة لم نرى النسخة المعدلة في البرلمان التي ينبغي عليها تعديل بعض بنوده لتقليص القيود على ممارسة الإضراب، خاصة فيما يتعلق بفترة الإشعار المسبق وتعريف القطاعات الحيوية. كما يجب أن يُرفق القانون بضمانات لحماية العمال والنقابيين من أي تضييق قانوني أو إداري على أنشطتهم. تحقيق هذا التوازن يتطلب فتح حوار اجتماعي موسع مع كافة الأطراف المعنية، بما يُعزز الثقة ويُكرس احترام الحقوق الأساسية.
مشروع القانون التنظيمي للإضراب، بصيغته الحالية، يبدو وكأنه يُسير في اتجاه تقليص الحريات بدل تنظيمها. إن الإصلاح المطلوب لا يقتصر على تحسين الصياغة القانونية، بل يشمل تبني رؤية تشاركية تُشرك النقابات والمجتمع المدني والهيئات الحقوقية لضمان توافق النص مع الدستور وحماية حقوق الجميع. التحدي الآن هو تحويل هذا المشروع إلى نص قانوني يحمي المصلحة العامة دون المساس بحقوق الأفراد والجماعات، بما يعكس فعلاً إرادة بناء دولة الحق والقانون.