ليس من المبالغة، ولا من المزايدة، وصف ورش اصلاح مدونة الأسرة، بالمعركة التي تجري وفق “تكتيكات” التدافع والصراع المعروفة والمعمول بها في السياسة.
آراء أخرى
ذلك أنه ورغم التعليمات الواضحة والصريحة للملك، أمير المؤمنين، في هذا الورش، التي دعت للاجتهاد والتفكير في حلول قانونية لاشكالات تعيشها الأسرة المغربية، في شق العلاقة بين اطرافها الرئيسيين، والامتدادات كذلك لبقية الأطراف، لكن مع بقاء الاجتهاد والتفكير من داخل قاعدة وضابط “عدم تحليل الحرام او تحريم الحلال”، بما يحيل عليه من وجوب الانضباط للمرجعية الدينية للدولة والمجتمع.
رغم ذلك كله، تصر مكونات هامشية في المجتمع، لكنها تمتلك النفوذ في السلطة وفي مجالات أخرى مرتبطة بها، على إعادة النقاش حول الأسرة في كل مرة الى سجالات سبق الحسم فيها، محاولة ربح نقط في معركة مستمرة لا تكاد تتوقف، مستقوية بالخارج وبالمواثيق الدولية، وملوحة أو مهددة باستعمال الاغلبية العددية التي تمتلكها في البرلمان، وهو ما فضحته فقرة في بلاغ حزب الأصالة والمعاصرة ليوم 25 دجنبر 2024، جاء فيها “يطالب الحكومة بالإسراع ببلورة هذه المقترحات وهذه الخطوط العريضة عبر مراجعة جوهرية لمشروع قانون تعديل مدونة الأسرة، والمصادقة عليه وإحالته في أقرب الآجال على البرلمان لاستكمال مسطرة المصادقة”.
ولئن احتفطت المنهجية المعتمدة في مراجعة مدونة الأسرة، بعناصر القوة التي ميزت عادة معالجة القضايا الكبرى في المغرب، على رأسها إشراك جميع الحساسيات والتمثيليات، فإن تحركات أطراف من داخل اللجنة التي كلفها الملك بمباشرة الخطوات الإجرائية في هذه المنهجية، وخاصة التي يمثلها وزير العدل عبد اللطيف وهبي بتصريحاته النزقة، شوشت على العملية، أدخلت الشك حولها لعموم المعنيين والمواطنين.
وما ظل يقوم به الوزير وهبي ومن معه، يؤكد ما انطلقنا منه من كون مراجعة المدونة هي معركة سياسية يخوضها كل طرف بما ينضح فيه، وبما يؤمن به من وسائل في الصراع السياسي.
اليوم وبعد دخول ورش او معركة مراجعة مدونة الأسرة، المرحلة الثالثة، اذا توافقنا على اعتبار المرحلة الأولى انطلقت بدعوة الملك للمراجعة او الاصلاح في خطاب العرش لسنة 2022، وعلى اعتبار المرحلة الثانية انطلقت بتوجيه جلالته رسالة في الموضوع لرئيس الحكومة في شتنبر 2023، ويمكن اعتبار إحالة الملك لبعض مخرجات المرحلة الثانية على المجلس العلمي الأعلى، نقطة نظام حول الخروج عن الضوابط التي حددها الملك خاصة المتعلقة بعدم السماح بالاقتراب من النصوص الدينية القطعية، او اقتراح مقتضيات تتحرش بهذه النصوص.
في هذه المرحلة، ستشتد المعركة بدون شك، لكنها قد تجري فوق الغام يجب تجنبها، باتخاذ ما يلزم من قرارات لتحييدها، ضمانا لاستكمال الورش بما يخدم الجميع.
وهنا يمكن العودة إلى بلاغ الديوان الملكي حول جلسة العمل التي عقدها الملك يوم 23 دجنبر 2024، والذي استقبله الجميع بالاشادة والتنويه، وتكليف جلالته لرئيس الحكومة وباقي الوزراء المعنيين، “بالتواصل مع الرأي العام، وإحاطته علما بمستجدات هذه المراجعة، والتي ستسهر الحكومة، داخل آجال معقولة، على حُسن بلورتها وصياغتها في مبادرة تشريعية، طبقا للأحكام الدستورية ذات الصلة”.
اذ أن أول ما قام به الوزير وهبي سواء من خلال اولى تصريحاته المستفزة لغة وايحاءات جسدية، او من خلال ضغط حزبه في بلاغ رسمي، لإحالة ما اعتبرها مراجعة” جوهرية” لقانون مدونة الأسرة في” أقرب الآجال” على البرلمان لاستكمال مسطرة المصادقة، في وقت تحدث فيه بلاغ الديوان الملكي عن صياغة المراجعة في مبادرة تشريعية داخل “آجال معقولة”.
إن أول عائق أمام استكمال مراجعة مدونة الأسرة في أجواء إيجابية، هو الاطراف الحكومية المعنية، وخاصة رئيس الحكومة والوزير وهبي، الفاقدين لأهم عناصر نجاح التواصل مع الرأي العام، وهو المصداقية، بما كسبت قراراتهم، وتبدد الثقة فيهما.
فكيف سيستقبل الرأي العام حديث هذه الاطراف عن مراجعة مدونة الأسرة، ويثق في الايجابيات المحتملة للمقتضيات التي ستحملها المراجعة، وهو تابع ويتابع كيف أن الوزير وهبي أشعل المغرب بتصريحات على قدر عال من التنطع، خلال تدبيره لفضيحة امتحان المحاماة، وخلال تدبيره للحوار مع المحامين ومع موظفي العدل، وحديثه المستفز والمقزز عن اسقاط تجريم الزنا بداعي رضا اطرافه، ومحاولاته التضييق على الجهات الأمنية المعنية بمراقبة الفنادق، وادعائه غياب نص قانوني يضبط الولوج لهذه الفضاءات والخدماتية.
وكيف سيستقبل الرأي العام ويثق في حديث رئيس الحكومة، والمبادرة التشريعية المطلوب منه أن يصوغها لترجمة مراجعة مدونة الأسرة، وهو غارق الى اخمص القدمين، في المخالفة الدستورية والأخلاقية ذات الصلة بتنازع المصالح، والمتهم عند الكثيرين بفشله في تنزيل الحماية الاجتماعية، التي اربكت استفادة الملايين من المواطنين من الخدمات الصحية، والمتهم كذلك بـ”سرقة أموال الارامل” وبالتفرج على ارتفاع أسعار المحروقات وغيرها، وبإغناء المستوردين من المقربين منه ومن حزبه؟
وزير الاوقاف والشؤون الإسلامية، هو الاخر، سيدخل غمار التكليف بالتواصل مع الرأي العام، وهو مثقل بزلة اللسان المتعلقة بتصريحاته التي لم يكن لها داع، المتعلقة بعلمانية المغرب، قبل أن يرتبك في محاولة التوضيح والشرح، رغم أنه من الناحية الرمزية، مجرد حضوره في جلسة العمل وحديثه باسم المجلس العلمي الأعلى، فيه ما فيه من اشارات له ولكل من حاول استغلال زلة لسانه، او زلة تفكيره كما بينه في رسالته المفتوحة للأمين العام لحزب العدالة والتنمية، رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله بنكيران.
في كلمة، نجاح استكمال ورش مراجعة مدونة الأسرة، تكتنفه عوائق لا يمكن القفز عليها، أولها ضوابط الصراع السياسي عند أطراف لا تخفي عداءها لمرجعية الدولة والمجتمع، والتي لن تتهاون في استعمال اساليب التخدير والتضليل والتدليس لتمرير ما تريد، وماهي متعاقدة عليه مع الساعين لتخريب الأسرة المغربية، وزرع قنابل موقوتة داخلها.
وثاني هذه العوائق، تتعلق بغياب المصداقية وتبدد الثقة في الأطراف المكلفة بالتواصل مع الرأي العام بخصوص مضامين المراجعة المنتظرة والمرجوة.
ودون معالجة هذه العوائق، سيسيطر حوار الطرشان على المرحلة الثالثة من ورش مراجعة المدونة، وربما ينزاح النقاش الى هوامش أخرى، غير مرغوبة وغير مفيدة للبلاد، ولمن يعتبر فليحلل السخرية السوداء التي قوبلت بها مضامين المراجعة المعلن عنها، على مواقع التواصل الاجتماعي.