لا سؤال يطرح اليوم حول حزب العدالة والتنمية أكثر من الوجه الذي سيقود الحزب، أمينا عاما، خلال الفترة المقبلة، والتي تبقى الاستحقاقات الانتخابية المنتظرة أبرز اختباراتها، وهو السؤال الذي بات مُلحا في ظل اتجاه الحزب نحو عقد مؤتمره الوطني التاسع في شهر أبريل من سنة 2025.
وبينما يرجح البعض استمرار عبد الإله ابن كيران، الأمين العام الحالي لحزب “البيجيدي”، لولاية إضافية، يذهب البعض الآخر إلى أن صلاحية الرجل السياسية انتهت، وأن عليه تسليم مفاتيح الحزب لوجه آخر، بما ينسجم مع متطلبات التموقع في الخريطة السياسية القادمة.
المدافعون عن ابن كيران يلتمسون عذر استمراريته لولاية أخرى في الدور الذي لعبه لإعادة الحزب إلى الواجهة، بعد أن هوت به انتخابات الثامن من شتنبر 2021 إلى أسفل ترتيب الأحزاب السياسية المغربية، من ناحية التمثيلية بالمؤسسات على الأقل.
وبالمقابل فإن عناصر قوة ابن كيران هي نفسها نقاط ضعف حزب العدالة والتنمية، ذلك أن الأمين العام المزهو برئاسته السابقة للحكومة لا يتوانى في مهاجمة الجميع وفي خلق جبهات للحزب لا حصر لها، مما أسهم في جلب انتقادات على الحزب، أقلها تذكيره بإخفاقات عشر سنوات من التدبير الحكومي.
وإذا كان الجدل الذي يثيره ابن كيران لن يؤثر في تعزيز رأي أعضاء الحزب بضرورة مغادرته، بحكم قلة الاختيارات السياسية أمام الحزب حينها، فإن ما تقتضيه اللعبة السياسية في المغرب، خاصة على مستوى التحالفات الحزبية، سيدفع قيادة الحزب لا محالة إلى التفكير في وجه سياسي آخر يقود المرحلة المقبلة.
هفوات ابن كيران..
على الرغم من أن ابن كيران ساهم في إعادة حزب العدالة والتنمية إلى الواجهة، إلا أن مسيرة العودة كانت محفوفة بحوادث السير، التي جعلته يرتكب هفوات عدة، الأمر الذي قد يُسهم في خفض احتمال استمراره في قيادة الأمانة العامة للحزب خلال الفترة المقبلة.
ولم يسلم من نيران عبد الإله ابن كيران، قريب ولا بعيد، ذلك أن عودته لقيادة “المصباح” دُشنت بهجومه اللاذع على قيادة الحزب السابقة، في شخص سعد الدين العثماني، وباقي الوجوه التي قادت حكومة “البيجيدي” الثانية، تبعها مغادرة عددا من القيادات الحزبية والأوجه البارزة أو تجميد مهامها.
هفوات ابن كيران جرت عليه أيضا انتقادات من الديوان الملكي بعد الربط الذي أقامه الحزب بين علاقات المغرب وإسرائيل والتطورات التي عرفتها الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى اتهاماته لوزير العدل عبد اللطيف وهبي بأنه “وزير فساد”، ومهاجمته حزبي التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي بسبب مقترحاتهما لتعديل مدونة الأسرة، إضافة إلى غلو تصريحاته في مواجهة رئيس الحكومة.
كما أن علاقة ابن كيران المكهربة مع الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي أفضت إلى إفشال خطوة المعارضة للدفع بملتمس الرقابة، مع استحضار استخدام الأمين العام نفسه لقاموس سياسي غير لبق في كثير من المناسبات، لم يسلم منه حتى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إضافة إلى تمسكه بما أطلق عليه “القرارات اللاشعبية” لحكومته الأولى.
سياق تحديد القائد..
يرى الحبيب استاتي زين الدين، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاضي عياض بمراكش، في تصريحه لجريدة “مدار21″، ضرورة استحضار السياق الذي جاء بابن كيران إلى قيادة الحزب، والذي يرخي بظلاله على اختيار الزعيم المقبل للحزب.
ويسجل استاتي، من الناحية الداخلية للحزب، “استمرار تداعيات الهزيمة القاسية التي شهدها العدالة والتنمية في انتخابات شتنبر 2021، وما فرضته آنذاك من تغييرات استثنائية، وإن كان من العسير على أيّ حزب أن يتغلب عليها في وقت وجيز”.
ولفت إلى أن التغييرات بدأت “بتقديم الأمانة العامة السابقة استقالتها بعد تحميلها مسؤولية هذا السقوط المدوي، ومرورا برفض أعضاء المؤتمر الوطني الاستثنائي مقترح الأمانة العامة المستقيلة بتأجيل المؤتمر مدة سنة، بذريعة عدم امتلاك الحق في تقرير مستقبل الحزب بعد قرار التنحي عن المسؤولية، وانتهاء بإعادة انتخاب عبد الإله بنكيران مجددا أمينا عاما للحزب بعد حصوله على أكثر من ألف صوت مقابل 221 صوتا لعبد العزيز العماري و15 صوتا لعبد الله بوانو، بينما بلغ عدد الأصوات الملغاة 4 أصوات”.
وتابع أستاذ العلوم السياسية “لربما لا تعكس النتيجة الإجماع حول بنكيران وحفر هوة عميقة بينه وبين عديد القياديين الذين تفرقت بهم السبل، بعد تيقن بعضهم من عجز الحزب على ضمان عودتهم إلى الأضواء مرة أخرى، ولكن أيضا حنينا إلى الماضي الذي يبدو أن الرجوع إليه ليس مهمة يسيرة، اللهم إذا استجدت ظروف استثنائية، وهو ما لا نراه متوقعا وراجحا في المدى القريب”.
مرحلة جديدة.. قيادة جديدة!
وحول موضوع استمرار عبد الإله ابن كيران لولاية إضافية على رأس الحزب، أبرز المحلل السياسي محمد شقير، في تصريح لجريدة “مدار21″، أن القيادة المقبلة للعدالة والتنمية “مطروحة للنقاش بحدة، خاصة بعدما أصبح اسم إدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني للحزب، مطروحا لخلافة ابن كيران”، مفيدا أن هذا الأخير بات يشعر بنوع من المنافسة بينه وبين الأزمي وبأنه لن يتم تجديد ولايته ما يفسر خرجاته الأخيرة.
وأورد شقير أنه “لابد أن قيادات الحزب تفكر في تعويض ابن كيران، بحكم أولا أنه لم يعد صالحا لقيادة المرحلة المقبلة، وأنه قام بما يمكن أن يقوم به في إطار إيجاد الوسائل لتعافي الحزب من النكسة التي تعرض لها بعد انتخابات الثامن من شتنبر”.
وأوضح المحلل السياسي أن “الحزب دخل في مرحلة للتعافي ويفكر في بديل للأمين العام الحالي، لأن ولاية ابن كيران الحالية شهدت بعض السلبيات التي انعكست على المحيط الحزبي، خاصة بعد اتخاذ بعض القيادات البارزة في الحزب قرار تجميد عضويته أو مغادرة الحزب”.
التخلص من الشيخ والمريد..
ومن جهة أخرى يرى أستاذ العلوم السياسية الحبيب استاتي أوضح أن من الصعب على العدالة والتنمية تجاوز السياق الذي جاء بالأمين العام الحالي، وذلك “في ظل هشاشة القطائع بين الماضي والحاضر، مما يقودنا إلى صعوبة اختيار خليفة للأمين العام الحالي”.
ويضيف أستاذ العلوم السياسية “لا أستبعد الدفع بالأزمي مثلا، أحد أبرز المقربين من ابن كيران، لكن لن تكون المهمة سهلة أمامه من أجل إعادة المحاولة من جديد ليستعيد الحزب ديناميته، ولا سيما أن الحزب لا يزال يعيش صدمة نفسية يحتاج فيها إلى المزيد من الوقت للتعافي”.
كما أنه يصعب على الحزب، وفق استاتي، أن “يتخلص من فكرة الشيخ والمريد بالنظر إلى الحيز الذي أصبح يشغله بنكيران داخل الحزب إلى درجة يُخيَّل فيها للملاحظ أن حزب العدالة والتنمية يتجسد في بنكيران، وأن هذا لأخير هو الحزب نفسه، وهي صورة تجعل فرضية الانتقال السلس إلى قيادة جديدة غير سهلة في الوقت الحالي إذا لم يتمكن المنتمين إليه من وضع مسافة الأمان الكافية مع أزلياته”.
مرشحون لخلافة ابن كيران..
المرحلة الجديدة، لاسيما في أفق الانتخابات القادمة، تتطلب، وفق حديث شقير للجريدة “البحث عن شخصية جديدة، مرجحا فرضية أن “تنحصر المنافسة بين إدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني للحزب، وعبد الله بووانو، رئيس المجموعة النيابية للعدالة والتنمية بمجلس النواب”، مفيدا أنه “إذا تم التوافق على إحدى الشخصيتين المذكورتين فمن الوارد أن يتم إبعاد عبد الإله ابن كيران”.
وأفاد المحلل السياسي، في حديثه لجريدة “مدار21″، أن الجبهات الكثيرة التي فتحها عبد الإله ابن كيران خلال الأمانة فيها إيجابيات وسلبيات، فهي من جانب أسهمت في الحفاظ على تماسك الحزب، وهذا الأمر مهم بعد النكسة التي تعرض لها الحزب، وابن كيران لعب الدور الأبرز بحكم تاريخه داخل الحزب وكاريزميته.
ومن جهة أخرى، أبرز شقير أن هناك مجموعة من القيادات البارزة التي غادرت الحزب بسبب عدم رضاها على طريقة تسيير ابن كيران للحزب وخرجاته، موضحا أن ذلك يدفه بإمكانية تعويضها استعدادا من الحزب للفترة المقبلة.
وذهب شقير إلى أن ترجيح كفة إدريس الأزمي لخلافة ابن كيران، ذلك أن تجربة اختيار القيادات داخل الحزب أبانت أن رئيس المجلس الوطني يكون في الغالب أمينا عاما للحزب، وهذا الأمر تأكد مع سعد الدين العثماني، ولكن تبقى كلها تكهنات، غير أن المرجح أن ابن كيران انتهت صلاحيته، وأن هناك شخصية يمكن أن تعوضه.
ضرورة تجديد النخب..
ويؤكد أستاذ العلوم السياسية الحبيب أستاتي، في حديثه لجريدة “مدار21” أنه “بصرف النظر عن الدور الذي قام به الأمين العام الحالي وما يتوقع منه القيام به حاضرا ومستقبلا، أو قوة أو تذبذب التنظيم الحزبي، سيكون من المفيد التفكير في تجديد النخب ودعمها، مع العلم أن التغيير لا يعني التنكر لأدوار شخص أو طمس ماض واقع أو مفترض بالضرورة”.
واعتبر استاتي أن التغيير “يعدّ علامة على التكيف مع الظروف الجديدة، ويشير أيضا إلى كفاءة القيادة، وهذا هو المفترض، في اكتساب رؤية جديدة أو التطلع إليها”، مشددا على أنه “يصعب التكهن بالقدرة على القطع مع الماضي في هذه المرحلة الدقيقة من حياة الحزب”.
ويستدرك المتحدث “بيد أنه يبدو بالموازاة مع ذلك أنها مسألة ضرورية سيتكفل الزمن ببعثها عاجلا أم آجلا، على الرغم من الألم الذي قد تحدثه، وخاصة أن التنافس في الانتخابات المقبلة سيكون محتدما، بحيث سيكون البقاء للحزب الأقوى تنظيميا وتدبيريا من جهة، والأكثر قدرة على التعايش الذكي مع تحديات ومتطلبات المملكة في الربع الثاني من القرن الواحد والعشرين، من جهة ثانية”.
ابن كيران.. نهاية الصلاحية
وشدد المحلل السياسي محمد شقير على أن عبد الإله ابن كيران انتهت صلاحيته سواء داخل الحزب أو على صعيد المحيط الحزبي والمشهد السياسي، موردا أن ابن كيران حينما نال المعاش كانت تلك إشارة إلى ضرورة انسحابه من الساحة، غير أن تشبثه بالاستمرار داخل الحزب يثير بعض الاستياء ممن يتحكمون برسم الخريطة السياسية.
وأورد شقير أن خرجات ابن كيران ساهمت في إعادة ظاهرة الشعبوية إلى الخطاب السياسي المغربي، وهي الظاهرة التي كانت قد ميعت المشهد السياسي في وقت سابق. وفي أفق الانتخابات القادمة والبحث عن مرحلة جديدة، أعتقد أنه لن يكون لابن كيران مكان داخل هذا المشهد.كلها مؤشرات تفيد أن ما يبعد عبد الإله ابن كيران عن قيادة المرحلة على رأس حزب العدالة والتنمية، أكثر مما يقربه من ذلك، إلا إذا اختار أعضاء “البيجيدي” تجديد وضع “بيضهم” مرة أخرى في سلة الأمين العام الحالي، ما الاحتمالات المفتوحة التي قد يسفر عنها ذلك.