جارا وراءه تجربة تمتد لعقود كخبير في مجال صناعة البندقية التقليدية المستعملة في التبوريدة المغربية، والتي تسمى شعبيا “لْمْكْحلة”؛ يشارك الصانع التقليدي والمعلم علي حدادي، من جديد، ضمن الخامسة عشرة من المعرض الدولي للفرس، الذي يقام بمدينة الجديدة.
“لمكحلة”؛ هذه الآلية تشكل عماد نشاط التبوريدة المغربية إلى جانب الخيل، إذ تعهد صناعتها إلى متخصصين وذوي تجارب في هذا الصدد، والذين صاروا معدودين على رؤوس الأصابع جراء عدم إقبال الأجيال الجديدة على تعلم هذه الحرفة كما كان في السابق. في نهاية المطاف، تبقى هذه البندقية سيفا ذا حدين، إذ تسهم في تحقيق النقاط والفوز بالتظاهرات، إن كانت من الطراز الرفيع؛ في حين يمكنها أن تتسبب في وفاة فرسان، كما يحدث في بعض الأحيان ضمن المهرجانات الوطنية.
قادما من فاس، ركن المعلم علي كعادته إلى مكانه المخصص على مستوى فضاء المعرض، حيث يتعرف عليه زوار معرض الجديدة كأبرز المغاربة المتخصصين في صناعة البنادق، ويبسط لهم هو الآخر جوانب من عمله الذي قضى فيه سنوات عديدة من عمره، محاولا توريث هذه المهنة لأحد أبنائه الذي يرافقه حاليا في تنقلاته ومشاركاته بالتظاهرات الوطنية.
ونحن نتحدث إليه عبر أسئلة نراها جديرة لكونها تتعلق بمجملها بصناعة إحدى أهم الآليات التي كانت إلى وقت ليس ببعيد تستعمل في الحروب وحماية الأراضي من خطر محدق، وتستعمل اليوم خصيصا في أنشطة التبوريدة، قال حدادي: “هذه الآلية تطورت بشكل واضح مقارنة بالأمس، حيث صرنا أمام مجهودات من قبل الدولة بغرض الضبط والتدقيق في طريقة صنع هذه الآليات”.
الزناد لا يموت!
اعتبر الصانع التقليدي والمعلم علي حدادي أن “أساس البندقية هي الفوهة (الجعبة)، حيث إن هذه الأخيرة تنتهي صلاحيتها بسرعة مقارنة مع الزناد الذي يعمر طويلا، خصوصا إذا كانت تهيئة تمت على يد ماهر أو متخصص لا يعرف للغش سبيلا، ويعتبر أنه سيكون مسؤولا عن أي روح ستسقط بفعل البارود”.
وتابع الخبير في مجال صناعة البندقية التقليدية المستعملة في التبوريدة المغربية: “نستعين في هذه العملية بخشب الجود الموجود لدينا أساسا بشمال المغرب، كما نستعين بمعادن من أجل إخراج البندقية في أبهى حلة من الناحية الجمالية”.
وأبرز المتحدث نفسه: “هناك للأسف من لا تزال لديه بندقية ورثها عن أبيه وأجداده، ويواصل تزويدها بالبارود واستخدامها.. وهذا في حد ذاته إلقاء بالنفس إلى التهلكة، حيث إن الفوهة يجب أن يتم تغييرها ويجب ألا تتجاوز أساسا عشر سنوات؛ لأنه يمكنها وقتها أن تتسبب، لا قدر الله، في مصيبة”.
وأشار المعلم علي، في معرض حديثه لهسبريس، إلى أن “وجود مجهودات في هذا الصدد من قبل مصالح الدولة بغرض مراقبة كل هذه التفاصيل، إذ تستعين بنا كخبراء في هذا الصدد”.
وزاد: “أتوفر، شخصيا، على بندقية عمرت لأزيد من مائتي سنة.. هي بمثابة تحفة نادرة جدا لا نزال نحتفظ بها، في وقت أتوفر زناد هو الآخر استوفى ستة عقود ولا يزال يشتغل؛ لأن صلاحيته لا تموت في الأساس عكس الفوهة (الجعبة)”.
عقود من الحرفة
يتردد علي حدادي سنويا على المعرض الدولي للفرس، الذي يقام بمدينة الجديدة والذي يشكل بالنسبة إليه حدثا مهما في التعريف بالفروسية وكل الأنشطة المرتبطة بالصناعات التقليدية التي تدخل في صميم توفير اللوازم التي يحتاجها الفارس، في وقت يتحسر على أن “الجيل الجديد، خصوصا من أبناء المهنيين، صار لا يرغب في الإبقاء على نفسه كممارس لهذه الصناعات”.
وتعلم الخبير الفاسي في هذا المجال صناعة البنادق على يد أبيه الذي كان هو الآخر “مكحايلي”، حيث بدأ بصناعة الزناد لمدة 12 سنة، قبل أن ينتقل إلى المساهمة في إخراج بندقية إلى حيز الوجود من ألفها إلى يائها.
وفي هذا الصدد، قال: “بإمكاني حاليا أن أصنع بندقية في ظرف 12 يوما فقط، تصلح لأن تستعمل في الفروسية بشكل مباشر”.
وعن وضعية الحرفيين المغاربة الذين يخبرون أمور صناعة “لمكحلة”، أفاد المعلم ذاته بأن “عددهم للأسف قليل، ولا يزيد عن 36 صانعا، ويتفاوت مستواهم في إدراك خبايا صناعة البنادق”، مبرزا أن “هذه الصناعة صارت سهلة بعض الشيء اليوم، حيث صرنا نتوصل بالفوهات من فرنسا، إذ تقوم شركة باستيرادها من هناك إلى الدار البيضاء، قبل أن نشتغل نحن على التفصيل الأخرى؛ بما فيها المرتبطة بالجزء الخشبي من البندقية وتشكيلاتها”.
وعن الأثمنة، قال إنها تبدأ من 4500 درهم فما فوق، وهناك من البنادق من يصل ثمنها إلى مليون ونصف المليون سنتيم، تكون عادة محتوية على نسبة مهمة من المعادن، خصوصا الفضة.
وزاد: “نمنح لزبنائنا ضمانات تصل إلى 5 سنوات، حيث إن الأمر هنا يتعلق بسلاح، يمكنه إن لم تتم صناعته بكل أمانة أن يهلك حامله ويرديه قتيلا، وهو ما نراه عادة”.
الغش يودي بالأرواح
شدد علي حدادي، الصانع التقليدي والمعلم الخبير في مجال صناعة البندقية التقليدية المستعملة في التبوريدة المغربية، على أن “الغش يجب ألا يكون مكان له في مجال صناعة البنادق، حيث يجب على الصانع ألا ينجر إلى لبحث عن الربح؛ لأن المسألة هي مسألة أرواح وأمانات على رقبته، وله مسؤولية في أي حادث يظهر أن خللا في البندقية التي صنعها تقف وراءه”.
بالموازاة مع حديثه إلينا، واصل الخبير في صناعة البنادق الترحيب بزوار المعرض ورواقه الخاص ضمن فضاء الحرفيين والمهنيين، إذ منح وقته لتلاميذ مدارس عديدة توافدوا على المعرض، محاولا تعريفهم على دوره وعلى جوانب من التجربة التي اكتسبها طوال عقود من عمله كـ”مكحايلي”.
الملك يهتم بـ”التبوريدة”
عند مدخل ركنه ضمن المعرض، وضع المهني ذاته صورة تذكارية له تخص لقاءه بالملك محمد السادس خلال النسخة الثانية من المعرض الدولي للفرس، إذ قال إنه يعتز بهذه الصورة ويعتبرها بمثابة “تشريف له نظير عمره الذي وهبه لصناعة البنادق وتكوين الحرفيين على مدار سنوات واستعانة مصالح الوزارة المكلفة بالصناعة التقليدية به من منطلقه كخبير”.
وجهنا إليه سؤالا بخصوص ما الذي كان قد دار بينه وبين العاهل المغربي، فرد قائلا: “سألني الملك محمد السادس حفظه الله، وقتها، عن الأسباب والعوامل التي تقف وراء مجموعة من الأحداث التي تقع في المهرجانات ومواسم التبوريدة”، ثم أردف قائلا: “شرحت له الأمر بالتفصيل، وما كان منه إلا أن أعطى تعليماته وقتها لمرافقيه من أجل أن يتم البحث عن حلول بخصوص الموضوع”.
وأكد علي حدادي أن “نسبة المشاكل التي تقع على مستوى البنادق وتودي بحياة الفرسان تراجعت منذ ذلك الوقت”، لافتا إلى أن “صناعة هذه الآليات صارت، اليوم، تشترط التوفر على وثائق تمنحها وزارة الصناعة التقليدية؛ فضلا عن أن هناك مراقبة شديدة للأسواق التي كانت تباع فيها البنادق مباشرة للزبناء، فلم يعد ذلك ممكنا بعدما تم اشتراط التوفر على دكان بالنسبة للبائع والصانع كذلك”.
على الرغم من هذه المجهودات المؤسساتية التي تروم النهوض بالصناعة التقليدية، و”لمكحايلي” جزء منها؛ فإن الخبير في هذا النوع من الصناعات لا ينظر إلى المستقبل بكثير من التفاؤل، حيث يستحضر التوجس، إذ أكد أن أبناء الصانعين لم يعودوا يؤمنون بمقولة “تبع حرفة بوك لا يغلبوك”، بما يعني أننا صرنا ندبر الندرة”.