كما العادة، جلست أحتسي كوب الشاي وأنا أتابع الحلقة الثالثة من برنامج كلام في السياسة لسلطان الصحافة، الأستاذ توفيق بوعشرين. الرجل دائمًا ما يفتح أمامي أبوابًا للتأمل الفلسفي أو للسخرية المريرة. وبينما كان يتحدث عن نجاحات وادي السيليكون كرمز للابتكار والتكنولوجيا، استوقفني واقعنا البائس. هنا في المغرب، لدينا نسختنا الخاصة: وادي “السلسيون”، حيث ينام الحلم ويستيقظ الفشل، وحيث تتحول البطالة من أزمة إلى نمط حياة.
آراء أخرى
لسنا بحاجة لابتكار هذا الوادي؛ فهو موجود بالفعل، ينبض في أزقة المدن، في نظرات الشباب الضائع، وفي زوايا الشوارع حيث تُستنشق أبخرة “السلسيون” بدلًا من استنشاق الأمل. إنه وادٍ يفر منه الوعي، تاركًا مكانه للهلوسات الكيميائية، حيث يتحول الواقع المرير إلى عبث لا يُحتمل.
بينما يُعتبر الفشل في وادي السيليكون خطوة على طريق النجاح، فإن الفشل في وادي “السلسيون” قد تحول إلى هوية جماعية. في هذا الوادي، لا توجد محاولات للنهوض، بل إعادة تدوير مستمرة لليأس. الشباب هنا لا يبتكرون تطبيقات، بل يبتكرون طرقًا للهروب من واقعهم، في ديالكتيك ساخر بين الوجود والعدم.
تُسوِّق النيوليبرالية نفسها على أنها نظام للفرص، لكنها في الواقع تخلق طبقة من المهمَّشين الذين لا يُسمح لهم حتى بحلم الصعود الاجتماعي. هؤلاء المهمَّشون يحتشدون في وادي “السلسيون”، حيث تُخمد الطموحات وتُستبدل بالأبخرة المُسكرة التي تمنح لحظات زائفة من النسيان.
في هذا الوادي، لا تتحدث الفلسفة عن الكينونة، بل عن ميتافيزيقا الفراغ. هنا، يُعطَّل الوعي الجمعي، ويُستبدل بلاوعي فردي يعمل على تخدير الألم اليومي. إنه المكان الذي تُمحى فيه الحدود بين الحقيقة والخيال، لتتحول الحياة إلى محاكاة ساخرة حيث يصبح الفرار من الواقع هو الخيار الوحيد.
في عالم وادي “السلسيون”، لا تقوم الأخلاق على الحرية أو المسؤولية، بل على إيتيقا الاستسلام. القوة هنا تكمن في القدرة على التأقلم مع الفشل، لا في مواجهته. إنها إرادة حياة مشوَّهة، تستمد قوتها من الانسحاب، لا من المواجهة.
إذا كان وادي السيليكون يمثل الحلم التقني العالمي، فإن وادي “السلسيون” هو ديستوبيا الحلم المكسور. هنا، تُدفن الطموحات في تربة الإحباط، وأي محاولة للنهوض تُعتبر نوعًا من العبث المأساوي.
ربما نحتاج إلى إعادة التفكير في فلسفة الهامش، فلسفة ترى في الفشل أداة لفهم أعمق للواقع. وادي “السلسيون”، على عبثيته وسخريته، يمكن أن يكون مختبرًا لاستكشاف أسئلة الوجود في عالم فقد توازنه بين المركز والهامش.
بينما يركض العالم خلف أوهام التقدم، يقف وادي “السلسيون” كصرخة صامتة تذكّرنا بحقيقتنا الموجعة. ربما حان الوقت لاستنشاق جرعة من الوعي بدلًا من أبخرة الخدر. وكما قال هيغل: “الحقيقة ليست سوى مجموع تناقضاتها.”
لكن، دعوني أختم بسؤال ساخر:
إذا كان سكان وادي السيليكون يطورون الذكاء الاصطناعي لتسهيل الحياة، فهل يمكن لسكان وادي “السلسيون” تطوير “غباء اصطناعي” لتبرير الفشل؟ أم أن الواقع سبقنا في هذا الإنجاز؟