الأحد, مارس 9, 2025
Google search engine
الرئيسيةالشامل المغربيقيامة معاوية - الأخبار جريدة إلكترونية مغربية مستقلة

قيامة معاوية – الأخبار جريدة إلكترونية مغربية مستقلة


 

د. خالد فتحي

 

تعرفت على معاوية بن أبي سفيان في الخامس ابتدائي. فقد كنت محظوظا بمعلمنا للغة العربية سي عمر رحمه الله، الذي كان يخصص ربع الساعة الأخير من كل حصة دراسية ليثقفنا حول سير الأنبياء والرسل والصحابة. وأذكر أنه حكى لنا ضمن ذلك عن خلاف الصحابة واقتتالهم بعد استشهاد الخليفة الثالث عثمان، وأنه قص علينا في سياق ذلك صراع علي ومعاوية وحروب الجمل، وصفين، والنهروان، وخدعة التحكيم وأزمة الانشقاقات التي رتبت عنها، ومؤامرة الخوارج للتخلص من معاوية وعلي وابن العاص، وذلك بأسلوبه الشيق المحبب. لن أنسى أبدا أنه كان يصر علينا أن ننطق اسم كل من علي ومعاوية وعمرو مقرونا بلازمتي سيدنا ورضي الله عنه. سأكبر قليلا، ويكبر معي فضولي، وسأقابل معاوية مرة أخرى عند طه حسين في كتابيه عثمان وعلي وبنوه، ثم سأصادفه بعد ذلك في كتب هشام جعيط وعلي الوردي وكتب آخرين… فكان أن استخلصت بمرور المؤلفات بين يدي أن معاوية الصحابي كاتب الوحي لا تثريب عليه، وأن معاوية الخليفة هو شخصية ثانية مختلفة صاغتها التحولات التي عرفتها الدولة الإسلامية التي توسعت إبان العهد الراشدي ما شاء الله لها آنذاك أن تتوسع. تبينت كذلك أنه كان رجل سياسة من عيار رفيع، وداهية محنكا يحسن انتخاب مستشاريه وتجميع بطانته من الدهاة والاستراتيجيين أمثاله، ويتقن أن يتألف الناس ويسترضيهم ويعبئهم في ركابه، وفوق ذلك كان فاتحا عظيما وحاكما لبيبا، لكني بالمقابل لمست في سيرته برغماتية خالصة وطموحا جارفا حقق منه ما حقق وارتكب من أجله من خطايا السياسة ما ارتكب. لقد عاش طالبا لمصلحته أولا ثم مصلحة بني أمية، وقريش والعرب، والأمة الإسلامية ثانيا. وفي النهاية فقد كان مثل جميع البشر له ما له وعليه ما عليه. ولذلك لم أتأخر في أن أصطفي لنفسي تأويلا لأحداث الفتنة الكبرى عدلت فيه بينه وبين غريمه علي: فأحببت عليا لمثاليته وتقواه وورعه وشجاعته وحبه للضعفاء والمظلومين، وأعجبت بمعاوية لواقعيته وبرغماتيته وحنكته الدنيوية. وبهذه «الحيلة النفسية» ظللت أراهما معا ضمن كوكبة الصحابة الغر الميامين الذين قال عنهم الرسول الكريم بأنهم نجوم بأيهم اقتدينا نهتدي.

ودائما أنظر إلى ما جرى بعد مقتل عثمان من وجهة نظر فكرية بحتة. كنت أقرأ عن تلك الفترة كما لو أني أقرأ رواية، ولذلك لا أنزعج أبدا حين أراها تشخص تلفزيونيا، فالرواية تلفزيون يبث في المخيلة. زد على ذلك أني أعتبر أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا نحن ما سنكسبه بعدها، وأنها أمة اجتهدت فأصابت وأخطأت، وهذا ما جعلني أرى أن هناك دوما فائدة تجنى في أن أطلع على كل الروايات، ولا أخفي أني كنت أجد لذة بالغة في ما تتناقض وتتعارض فيه في ما بينها. ولذلك لم أزور نهائيا عن هذه المسلسلات التي تتعرض لأحلك فترة في التاريخ الإسلامي، مادامت تستحث فينا حاسة البحث العلمي، ولا تستحيل لذريعة لإضرام فتنة ضروس بيننا وبينها 14 قرنا.

وهكذا خرجت من حيوات معاوية بخلاصة مفادها أنه رجل الأقدار الذي أجبرته جيناته وبيئته والأحوال السياسية التي تقلب فيها على أن يكون ما كان: أمويا قرشيا ميكيافيليا حتى النخاع خلط عملا صالحا بعمل طالح.

رجل بهذا الثقل التاريخي لقمين بأن يثير مسلسل يتناول حياته كل زوابع النقاش العاتية هاته. فقد كان شخصية جدلية بامتياز، كما أنه ما كان بوسعه أن يصبح بطلا لمسلسل دون أن تنازعه البطولة فيه أيقونة إسلامية أخرى تحمل اسم علي بن أبي طالب.

من تبعات بث مسلسل معاوية أنه استقبل استقبالا مختلفا من المتابعين؛ فحرم الأزهر مشاهدته لأنه لا يجب في رأيه أن نجسد شخصيات الصحابة، فقد يرتبط محيا الممثل بالصحابي في مخيلة المشاهد، ثم ينغمس هذا الممثل بعد ذلك في دور غير لائق في مسلسل آخر فيتبدد بهاء الصحابي وتتضرر مكانته في النفوس. قضية التطابق بين الممثل والشخصية التي يؤدي دورها صحيحة جدا، فأنا مثلا، وإلى الآن، تحضرني مباشرة صورة الممثل عابد فهد كلما أثير اسم الحجاج الثقفي أمامي، وكذلك وجه ممثل إيراني، لا أذكر اسمه الآن، كلما تخيلت النبي يوسف، وقد رأيت فعلا لعابد فهد أدوارا دون دور الحجاج قيمة، وصورة للممثل الإيراني على مواقع التواصل الاجتماعي ذوى فيها حسنه وجماله، هل يا ترى يكفي هذا الخلط لتحريم تجسيد الصحابة؟ في رأيي أجد هذه العلة غير كافية. فالصحابة مقدسون في علاقتهم بالنبي، أما غير هذا فهم أناس قد يصدر عنهم الخير وقد يصدر عنهم الشر. إذ لا عصمة إلا للنبي، وهو وحده من لا ينبغي تجسيده لأنه يقول عن نفسه في الحديث الشريف أن من رآه فقد رآه حقا لأن الشيطان لا يتلبس به.. فكيف والحالة هذه ندفع بممثلين كي يتقمصوا شخصية الرسول الكريم دون أن نكون قد شطحنا فنا ودينا.

العراق منع المسلسل، وهذا مفهوم جدا نظرا لطبيعة المجتمع العراقي الفسيفسائية، ولطراوة ذكرياته الأليمة، ولذلك من حقه أن يصون تماسكه تلافيا لنعرة أو فرقة، ولو كانت مجرد احتمال.

منتجو المسلسل يدافعون عنه ببسالة.. حجتهم في هذا الدفاع أن الدراما ليست تاريخا خاما، وإنما هي إعمال لخيال المؤلف في التاريخ بحدود وبتصرف في الآن نفسه.

المسلسلات التاريخية تبحث عن الفرجة، أما من حيث الحقيقة التاريخية، فهي تروي حقيقتها. في الواقع لا توجد حقيقة، بل حقيقتان وثلاث وأكثر وذلك بعدد زوايا النظر.

لست أظن منتجي المسلسل إلا سعداء بهذه الدعاية المجانية التي يوفرها لهم المنتقدون والمانعون له، وإن تظاهروا بتبرمهم من ذلك. ثم إنه إذا أضفنا إلى هذا النقع السجالي الذي أثارته الحلقات الأولى للمسلسل، كونه قد صرف عليه 100 مليون دولار، وكونه ظل في ثلاجة القناة حولين كاملين ينتظر التوقيت المناسب للظهور، فإننا سنستوعب لماذا استكمل كل عناصر الإثارة والتشويق التي ستجعل الجمهور يتحسس ساعة يده كل يوم ترقبا للحلقة القادمة.

الجمهور كتلة غير عاقلة يمكن توجيهها، والمسلسل بهذه الملابسات قد نجح في هذا التوجيه. بعض الجمهور سيشاهده لأنه متعطش بحكم انتمائه المذهبي لمعرفة حكم المنتجين ليس على معاوية فقط، وإنما على فترة الفتنة الكبرى برمتها، أما أغلبه فسيتسمر أمام الشاشة بدافع الفضول لا غير. سألت صديقا لي ذا مستوى علمي عال تابع الحلقات الأولى عن رأيه فيها، فأجاب بأنه يسمع بمعاوية لأول مرة وأضاف بانبهار أن العمل ضخم ومعجز. مثل هؤلاء صفحة بيضاء، وبالتالي قد لا يكون لهم الوقت كي يستمعوا للسردية المخالفة في ما بعد. فهل يمثل معاوية المنبعث من قبره في زمن سلطان الصورة خطورة على النظام الإقليمي العربي؟ هل يكون معاوية الذي قامت قيامته مبكرا عود ثقاب يشعل الفتنة المذهبية النصف نائمة؟ أعتقد جازما أن مثل هذه المسلسلات هي على العكس دليل صحة وعافية، لأنها تنقل الصراع الطائفي من الميدان إلى المستوى الإبداعي الفكري الدرامي، وبالتالي عوض أن تجري الصدامات على مستوى الواقع، حيث الخسائر حقيقية، ستجري على الشاشات. التلفزيون والدراما يمكن أيضا أن يقوما بنفس دور كرة القدم التي تنقل غريزة الاقتتال المتأصلة لدى الشعوب إلى الملاعب. اليوم معاوية، وغدا علي، بل إن عليا حاز قبله الكثير من المسلسلات. إن الدراما لما تعطي فرصة لبعض السرديات، فهي تقوم بتنفيس الطنجرة الطائفية، وتخلخل بعض الأصوليات المتضخمة التخيلية عن الذات، وتنبه الناس إلى تحري النسبية في ما يسمعون ويقرؤون ويشاهدون، فيتملكون أكثر حاسة النقد.

حين تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن الخلافة سمي ذلك العام عام الجماعة. ولقد تلته 20 سنة من الاستقرار في ظل الحكم الأموي بدمشق سيرت فيها الفتوحات بعد انقطاع، حتى أن عددا من الصحابة وأبناءهم شاركوا في عهد معاوية في حصار عاصمة بيزنطة القسطنطينية (إستانبول) حاليا كعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر وأبي أيوب الأنصاري…

لقد تحقق الإجماع حول معاوية، وكان بوسعه أن يكون الخليفة الراشد السادس بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن. لكنه ربما أخطأ بتولية ابنه يزيد، إذ كان بإمكانه أن يعهد للحسين بن علي بالخلافة، فيأخذ كل التاريخ الإسلامي والعالم برمته بذلك مسارا آخر مختلفا تماما.

بعض المحللين يقولون إنه فعل ذلك مضطرا لأن عصبة الحكم كانت بدمشق، وبالتالي كان هدفه من تولية ابنه أن تبقى الإمبراطورية الإسلامية موحدة.

سيكون المسلسل مفيدا، على الأقل من خلال الحمولة اللغوية والتاريخية، ومن حيث تحقيقه توازنا مفقودا في السرديات التلفزيونية التي تناولت هذه الحقبة العصيبة من تاريخ المسلمين، ومع ذلك فتوقيت بث المسلسل لا يخلو من رسائل وإشارات مقصودة وغير مقصودة.

الدراما التاريخية هي دائما هكذا فن وتاريخ وسياسة وغايات ترتجى. أولى الإشارات أنه يتزامن وصعود سلطة جديدة بدمشق، وبالتالي مسلسل معاوية يحرض على إعادة بناء مجد غابر ويحيل حكام دمشق الجدد على التوجه العربي لدولة بني أمية، وهو المطلوب الآن منها من قبل حاضنتها العربية ومن السعودية راعية المسلسل، وخصوصا بعد الانحسار الإيراني اللافت عقب طوفان الأقصى. ثم هو إعلان حنين من الذات العربية إلى الإمبراطورية العربية المترامية الأطراف في زمن تتلمس فيه الإمبراطوريات الأخرى طريق الانبعاث من جديد، روسيا القيصرية، الإمبراطورية الأمريكية، وكذا سعي أوروبا الحثيث للوحدة باهتبال فرصة تخلي ترامب عن أوكرانيا.

مسلسل معاوية خلق الحدث الدرامي خلال رمضان بعد بضع حلقات فقط، وقد تمكن من ذلك والأحداث لم تبلغ فيه ذروتها بعد. سننتظر ونتابع كل الحلقات لنعود في نقد وتقييم شامل لها أملا أن ننظر لمثل هذه الدراما كترف فكري لا يفسد لوحدة المسلمين قضية، فنحكم إن كان عملا إبداعيا حقا يخدم قضايا الأمة أم يعمق جراحها وانقسامها.

علينا أن نعي أن الدين نزل مع محمد (ص)، وأن التدين فهم المسلمين للدين، وأنه في الحقبة النبوية كان الدين يتماهى مع التدين، بفضل الاتصال القائم بالسماء. وبعدها، فكلما بعد بنا العهد عن عقود النبوة السمحاء، كلما اختلف في التدين وفي سبل الوصول للسلطة وممارستها. إن التدين والصراع على السلطة كلاهما اجتهاد بشري. لا ينبغي أن يبلغا إلى حد أن يتضرر تقبلنا للدين في ينابيعه الصافية.







Source link

مقالات ذات صلة

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

- Advertisment -
Google search engine

الأكثر شهرة

احدث التعليقات