امينة مستاري
يحكي هراري قصة استيطان العقلاء لشرق إفريقيا، واجتياحهم للبحر الأبيض المتوسط الذي يقطنه النياندرتال (سكان أصليون متوحشون) والشرق الأوسط،
لكنهم فشلوا في تأسيس موطن قدم، وهو ما جعل العلماء يخمنون أن البنية الداخلية لأدمغة للعقلاء كانت مختلفة عن أذهنتنا الآن، كانت قدراتهم الذهنية محدودة.
يضيف هراري، أنه قبل 70 ألف سنة، غادر العقلاء للمرة الثانية إفريقيا وتمكنوا هذه المرة من القضاء على النياندرتال ومحوهم من على وجه الأرض، فوصلوا إلى أوربا وشرق آسيا، ثم استقروا في أستراليا.
كانوا أذكياء ومبدعين…
تحدث هراري عن الثورة الذهنية التي بدأت ما بين 70 ألف سنة و30 ألف سنة، ويرجح أنسببها طفرات جينية حصلت صدفة غيرت التشبيك الداخلي لأدمغة العقلاء وهو ما جعل طريقة تفكيرهم غير مسبوقة ويستخدمون نوعا جديدا من اللغة والتي تعتبر مطواعة بشكل مذهل…هي طفرة شجرة المعرفة.
يؤكد المؤلف أن هذه اللغة لم تكن هي الأولى، بل كان لكل حيوان نوعا ما من اللغة تتواصل بها فيما بينها لكن المميز في لغة البشر
أنه يمكن ربط عدد محدود من الأصوات والإشارات لننتج عددا لا نهائيا من الجمل وكل واحدة بمعنى مختلف يمكن استيعابها وتخزينها وتبادل كمية ضخمة من المعلومات عن العالم المحيط بنا.
النظرية الثانية التي يستعرضها هراري أن اللغة المتفردة تطورت كوسيلة لتبادل المعلومات، والأهم منها كانت عن البشر وليس عن كائن أو حيوان،
لذلك اعتبر الإنسان العاقل حيوان اجتماعي مما يعتبر مفتاحا للبقاء والتكاثر وممارسة النميمة أو “النمائم” لساعات سواء عبر اتصالات هاتفية أو رسائل أو أعمدة صحف،
وما أكدته عدة دراسات أن العقلاء يمكنهم الحديث عن كل الكائنات التي لم شاهدوها أو يلمسوها…وفي مرحلة الثورة الذهنية ظهرت الأساطير والخرافات والآلهة والأديان، واعتبر المؤلف أن الحديث عن الخيال هو الميزة المتفردة للغة العقلاء، وهذا الخيال قد يكون مضللا بصورة خطيرة.
هذا الخيال مكن ليس فقط من تخيل الأشياء بل فعلها جماعيا، بنسج أساطير والتعاون بمرونة في أعداد كبيرة وحتى مع الغرباء، وبهذا تمكن العقلاء من حكم العالم.
أسطورة بيجو
يحلل هراري حياة الشنابز التي سماها (أبناء عمومتنا) وحياتهم الجماعية، وضعية الذكور منهم والإناث، ووضعية الذكر المتسيد،
وطريقة تشكيل ائتلاف بين المناصرين أثناء الصراعات، ونظامهم الاجتماعي ووقوع صدامات في حالة كبرت المجموعات، بل ووقوع إبادة جماعية من أجل الغذاء والتنافس على مناطق النفوذ…
و يغلب الظن، حسب المؤلف، أن هذا نمط مشابه للحياة الاجتماعية للإنسان المبكر، وأن النمائم ساهمت في تشكيل مجموعات أكبر ومستقرة قد يصل عدد أفرادها 150 فردا،
ويمكنها أن تحافظ على نفسها، لكن في العادة بمجرد تجاوز هذا العدد تعرف المجموعات أزمات وتتوقف عن العمل بالطريق المذكورة سابقا، إلا أن الإنسان العاقل تمكن من تجاوز هذه العتبة،
وخلق مدن وإمبراطوريات اعتمادا على الخيال وهذا هو السر، فالخرافات التي طرح هراري بعض الأمثلة عنها” دينية، وطنية، قانونية…” يمكن لشخصين أن يعملا معا توحدهما نفس الخرافة… كلها نابعة عن خيال الإنسان المشترك.
ساوى هراري بين البدائيين الذين يعتقدون بالأشباح والأرواح وبين المؤسسات الحديثة، فوصف الناشطون ورجال الأعمال والمحامون “مشعوذون نافذون” فهم يحكون قصصا أغرب،
واستدل هراري بأسطورة بيجو، فأيقونة تشبه تمثال لرجل الأسد، الذي اكتشف في كهف شتال في ألمانيا “المتخيل” تزخرف مقدمة سيارات تصنعها شركة بيجو.
هذه الشركة التي بدأت على شكل شركة عائلية تبعد عن كهف شتال، توظف حوالي 200 ألف شخص معظمهم غرباء عن بعضهم لكنهم يتعاونون فيما بينهم،
وستظل الشركة في حالة وقوع حوادث وخسائر أو فقدان العمال أو أسطولها، لكن يضيف المؤلف أنه في الحالة المعاكسة إذا تمت تصفية الشركة فسيبقى عمالها ومصانعها…هنا الحديث عما هو مادي ومعنوي.
يؤكد هراري أن بيجو هي من اختلاق خيال مشترك يعرف ب”خيال قانوني” وهو ما يسمى ب”الشركات المحدودة المسؤولية”.
ويختلف الأمر مقارنة مع القرن 13 فلو قام مثلا فرانس جان بتأسيس ورشة للعربات وباع إحداها فإن المشتري كان سيقاضي جان، ولم استدان هذا الأخير مالا وخسر فسيكون عليه أن يبيع ملكيته الخاصة للوفاء به،
أو يدخل السجن، أو يصبح عبدا لدائنه…فقد كان من عاش في تلك الفترة وجسا من الوقوع في مثل هذا الموقف ، لذلك تخيل الناس جماعيا بوجود شركات ذات مسؤولية محدودة مستقلة قانونيا عن الأشخاص المؤسسين لها،
حتى أصبحت اللاعب الرئيسي في حلبة الاقتصاد، رغم أن معناها لا ينطبق على حقيقة عملها فهي لا تملك جسدا حقيقيا، لكن النظام القانوني الأمريكي يعاملها كأشخاص لهم وضع قانوني كما لو كانت بشرا.
هي قصة مؤسس شركة بيجو” آرمو بيجو” الذي ورث محلا لصنع الأدوات المعدنية عن والده، دخل مجال السيارات وأسس شركة باسمه لكنها مستقلة فيمكن لمن يشتري سيارة أن يقاضي الشركة وليس بيجو وكذا بالنسبة للدين، وقد توفي بيجو لكن الشركة ظلت قائمة إلى يومنا هذا.
كما خلق الكهنة والعرافون الآلهة على مر العصور، يقول هراري، أسس بيجو الشركة، فالكل يدور حول حكاية القصص وإقناع الناس بالإيمان بها. فالمحامي الذي نفذ كل الطقوس المناسبة أو الإجراءات تم تأسيس الشركة، وعليه تصرف ملايين الفرنسيين كما لم أن شركة بيجو موجودة فعلا.
يؤكد المؤلف أنه لا تكمن الصعوبة في حكاية القصة ولكن في إقناع الآخرين بتصديقها، وحين تنجح القصة فهي تمنح العقلاء سلطة هائلة لأنها تسمح للغرباء أن يتعاونوا معا لتحقيق أهداف مشتركة.
ويعيش العقلاء منذ بداية الثورة الذهنية في واقع مزدوج، الواقع الموضوعي لأنهار وأشجار…والواقع المتخيل لآلهة وقوميات وشركات، فأصبح الواقع المتخيل أكثر نفوذا من أي وقت.
تجاوز الجينوم
بتغير الخرافات تتغير طريقة تعاون الناس، وتغيير سلوكه حسب مقتضيات التغيير، ما فتح مسارا للتطور الحضاري بتجاوز الازدحام المروري للتطور الجيني، فسلوك الإنسان يتحدد بالجينات،
والجينوم يقول هراري ليس حاكما مطلقا، فالسلوك قد يتغير دون حدوث طفرات دينية، لكن لأسباب نتج التغير في الأنماط الاجتماعية واختراع تقنيات جديدة للاستيطان في مواطن غريبة عن طفرات جينية وضغوط بيئية،
كما هو الحال في ظهور الإنسان المنتصب الذي صاحب ظهوره تطور تقنية جديدة من الأدوات الحجرية المميزة لنوعه، ولكونه لم يعرف بعدها أي طفرة جينية ظلت أدواته بلا تغير لمليوني سنة.
بخلاف العقلاء في الثورة الذهنية، الذين تغير سلوكهم بسرعة ونقلوه إلى الأجيال المستقبلية دون حاجة لتغير جيني أو بيئي.
كما هو الحال لأنظمة البوذية مثلا ومن لا أطفال لهم كالذكر الكاثوليكي “المتسيد” (الكهنوت) فهو يتخلى عن التكاثر ويمتنع عن الجماع الجنسي وإنشاء عائلة،
هذا الامتناع ليس ناتجا عن طفرة جينية أو ظروف بيئية ، بل ناتج عن تمرير قصص العهد الجديد مبادئ الشريعة الكاثوليكية.
فمثلا مواطنة ألماني عاشت 100 سنة، وعاشت 5 أنظمة سياسية، فهي جزء من هذه الأنظمة لكن جينها جينومها لم يتغير، فهذا مفتاح نجاح العقلاء يستخلص هراري، بخلاف النياندرتال الذين يستدل المؤلف على محدودية ذهنيتهم مقارنة مع العقلاء، الذين عملوا في التجارة الأصداف والسبح بالاعتماد على الخيال والثقة، بين مجموعات وبشكل جماعي، كما هو الحال في الصيد،
الذي مارسه العقلاء والنياندرتال، لكن افترض هراري أنه في حالة مواجهة بين الطرفين فالغلبة ستكون لا محالة للعقلاء الذين ولم هزموا في الجولة الأولى فإنهم سيغلبون في الثانية بفضل اختراعهم لاستراتيجيات جديدة .