سلط الدكتور المنتصر السويني، باحث في العلوم السياسية والمالية العامة، الضوء على قرار المحكمة الدستورية المغربية الأخير القاضي بدستورية القانون التنظيمي لممارسة حق الإضراب، مشددا على أنه يشكل محطة فارقة في تاريخ المغرب السياسي.
ويرى الباحث السويني، ضمن مقال معنون بـ “المغرب ما بعد المصادقة على القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب”، توصلت به هسبريس، أن هذا القانون ليس مجرد إطار تنظيمي، بل هو خطوة إستراتيجية لنقل المغرب من مرحلة الديمقراطية الصدامية، التي كانت تتأرجح بين “السيادة الفعلية” التي يعتمدها الحكم و”السيادة السلبية” التي تبنتها المعارضة، إلى مرحلة جديدة تقوم على “السيادة الإيجابية” و”السيادة النقدية”، حيث يتم تنظيم الخلافات الاجتماعية والسياسية بطريقة أكثر توافقية وعقلانية.
كما استحضر الباحث عينه تأثير هذا التحول على العمل النقابي، مبرزا أن المصادقة على هذا القانون تنقل النقابات من نهج “النقابي المقاوم”، القائم على المواجهة والرفض، إلى نهج “النقابي المفاوض”، الذي يعتمد الحوار والتوافق والحلول البديلة.
وهذا نص المقال:
قرار المحكمة الدستورية المغربية الأخير الذي يقر بأن القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب مطابق للدستور ليس حدثا عابرا في تاريخ المغرب السياسي، والمجتمع المغربي ككل، فلأول مرة منذ الاستقلال يتوفر المغرب على نص قانوني مكمل للدستور من مستوى- قانون تنظيمي – يعمل على تنظيم وتأطير وعقلنة الحياة الصدامية والخلافية التي يتميز بها ميدان العمل (الدولة-الباطرونا-النقابات)، كما يستهدف تحويل القوة العجيبة السلبية (التوقف عن العمل بالأساس) للبروليتاريا إلى قوة تفاوضية وقوة عقلانية، ويستهدف كذلك الانتقال بالديمقراطية المغربية من مربع “السيادة الفعلية -السيادة السلبية” إلى مربع “السيادة الإيجابية- السيادة النقدية”. مع العلم أن الديمقراطية المغربية اليوم هي في أمس الحاجة ليس فقط إلى تنظيم التوافق والاتفاق، ولكنها في حاجة كذلك إلى ترسيخ معنى عام من خلال الاتفاق أولا على نظام للقيم الجماعية، قادر على حكامة مرحلة الأزمات المرتبطة بمشاكل الحكم أو مشاكل تدبير الاختلاف داخل المجتمع أو داخل ميدان العمل بشكل خاص. ووجب الاعتراف بأن الانتقال من الديمقراطية الصدامية بالمغرب إلى الديمقراطية التوافقية هو طريق شاق وصعب وطويل.
أولا) القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب ينقل المغرب السياسي من مربع (السيادة الفعلية -السيادة السلبية) إلى مربع (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية)
المغرب السياسي ما بعد مرحلة الاستقلال، في غياب التوافق على الدستور، كان مجالا للصراع ما بين الحكم والمعارضة، هذا الصراع سيترسخ من خلال وجود إستراتيجيتين متناقضتين؛ إستراتيجية الحكم ستعتمد على الاشتغال من داخل ما يطلق عليه مربع “السيادة الفعلية”، التي تعني سلطة الإرادة وسلطة القيادة المؤطره، بما يشرعنه محتوى الفصل الثاني من دستور 1962، (الذي كان ينص على السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة على يد المؤسسات الدستورية، وهي الصيغة التي بقيت دون تغيير إلى غاية دستور 2011).
السيادة المؤطره بمحتوى الفصل الثاني من دستور 1962 كانت تعني السيادة باعتبارها سلطة الإرادة وسلطة القيادة غير الخاضعين لأي سلطة أخرى. مونتسكيو سيوضح أن السيادة الفعلية هي القدرة على الحكم وحق الأمر من طرف السلطة المشروعة أو حق تصحيح ما تم الأمر به من طرف سلطة أخرى. كما أن السيادة الفعلية للمؤسسات الدستورية كانت تعني عمليا أن السياسة هي النشاط الذي يعتمد على الإكراه، الذي من خلاله يفرض الحاكمون إرادتهم على المحكومين، وبالتالي على ثنائية “ممارسة السلطة الفعلية وإن اقتضى الحال استعمال القوة والعنف المادي”؛ وهو التفسير الذي تبناه السوسيولوجي الألماني ماكس فيبير، الذي أكد أن العنف المادي للحاكمين هو أمر مشروع، وكان يرى كذلك أن احتكار العنف المشروع لا يعتبر كوسيلة للعبودية، بل ينظر له كوسيلة للحكم المعتمد على القانون الذي تصدره المؤسسات الدستورية.
المعارضة المغربية ما بعد الاستقلال، في مواجهة إستراتيجية الحكم المعتمدة على شرعنة السيادة الفعلية و”الإرادة الفعلية”، ستشتغل من داخل إستراتيجية مضادة تعتمد على ما يطلق عليها “السيادة السلبية”. مفهوم السيادة السلبية يعتمد على ما أكد عليه مونتسكيو، حين قال: “أسمي القدرة على المنع الحق في جعل ما تم الأمر به من حلول من طرف الجهة التي توجد في السلطة لا غيا ومعدوما”. وهكذا يتضح أن إستراتيجية “السيادة السلبية” كانت تعتمد على إرادة عدم الفعل وإرادة التعطيل وإرادة “البلوكاج”، وإرادة الجمود ورفض السياسة من خلال تبني نوع من ممارسة السلطة الاجتماعية في الشارع، ومن خلال الاحتجاج الاجتماعي والإضراب.
ووجب التذكير بأن النظام السياسي المغربي والعقل الدستوري ما قبل 2011 كان يجد أريحية كبيرة في الاشتغال من داخل مربع القاعدة الدستورية التي كانت تؤطر الحياة السياسية في تلك المرحلة (السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة على يد المؤسسات الدستورية)، التي كانت تعتمد على ثنائية “السيادة الفعلية-السيادة السلبية”، وبالتالي لم يكن متحمسا كثيرا لضرورة الإسراع في إصدار القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب؛ ويتضح ذلك من خلال عدم إلزام المشرع الدستوري المغربي (ما قبل دستور 2011) المشرع القانوني بأي مهلة زمنية من أجل إصدار القانون التنظيمي المتعلق بتحديد كيفيات وشروط ممارسة حق الإضراب. كما أن المعارضة السياسية آنذاك، في غياب التوافق على الدستور، لم تكن مهيأة لقبول قانون تنظيمي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، الذي سيعمل على تقنين وتأطير الوسيلة الوحيدة للفعل المتبقية أمامها، والمتمثلة أساسا في ممارسة السيادة السلبية.
أولى خطوات خروج المغرب السياسي من إستراتيجية مربع “السيادة الفعلية” و”السيادة السلبية” كانت من خلال الانفتاح على المعارضة عبر فتح قوس التناوب التوافقي، إذ انتقل المغرب فعليا من إستراتيجية “السيادة الفعلية” إلى ما يطلق عليها “السيادة الإيجابية”؛ وهي سيادة تعتمد على سلطة إرادة الفعل وسلطة إرادة القيادة دون استعمال العنف المشروع، ومن خلال الاعتماد على الاتفاقات الاجتماعية (أول اتفاق اجتماعي بين الحكومة والنقابات وارباب العمل تم بتاريخ فاتح غشت 1996).
نهج العقل السياسي المغربي طريق “السيادة الإيجابية” عوض “السيادة الفعلية” ترسخ فعليا من خلال الابتعاد عن ممارسة القوة والعنف المادي في مواجهة الاحتجاجات والإضرابات. هذه الإستراتيجية الإيجابية التي دشنها الحكم بالمغرب (في غياب دستور جديد يحدد فعليا ودستوريا الانتقال إلى إستراتيجية جديدة) قابلتها المعارضة السياسية والنقابات العمالية بما يطلق عليه “تجميد إستراتيجية السيادة السلبية”؛ ما كان يعني أن المغرب السياسي أنجز وعبد نصف الطريق فقط نحو الانتقال من إستراتيجية “السيادة الفعلية” و”السيادة السلبية” إلى سيادة جديدة كانت تحتاج بالضرورة إلى ميثاق دستوري جديد.
دستور 2011، من خلال محتوى الفصل الثاني (السيادة للأمة، تمارسها مباشرة بالاستفتاء، وبصفة غير مباشرة بواسطة ممثليها. تختار الأمة ممثليها في المؤسسات المنتخبة بالاقتراع الحر والنزيه والمنتظم)، بدل الصيغة التي كانت سائدة في الدساتير السابقة (السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبصفة غير مباشرة على يد المؤسسات الدستورية)، كان يعني نقل السيادة إلى الشعب وممثليه، ومن خلال ذلك ترسيخ حقوق المعارضة، ما كان يعني عمليا نقل المغرب السياسي من مربع (السيادة الفعلية-السيادة السلبية) إلى مربع (السيادة الإيجابية -السيادة النقدية).
العقل الدستوري المغربي لسنة 2011 كان متيقنا من أن الانتقال من إستراتيجية (السيادة الفعلية-السيادة السلبية) إلى إستراتيجية (السيادة الإيجابية -السيادة النقدية) كان يتطلب منه عدم ترك الآجال مفتوحة أمام البرلمان من أجل المصادقة على الشروط المحددة لكيفية ممارسة حق الإضراب، وعمل بالتالي على إلزامه بآجال محددة من أجل تنزيل القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب (تنصيص الفصل السادس والثمانين من الدستور على ضرورة عرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص في هذا الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور)؛ ما يؤكد أن العقل الدستوري المغربي كان متيقنا بأن الانتقال إلى إستراتيجية (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية) مشروط بضرورة استكمال التنزيل الدستوري لدستور 2011 من خلال المصادقة على القانون التنظيمي الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.
ثانيا) المصادقة على القانون التنظيمي الذي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب تعني أن المغرب حسم الاتفاق حول أولوية -المعركة الانتخابية-
مغرب ما بعد الاستقلال، أمام الخلاف الكبير حول الدستور وكذلك الخلاف الكبير حول مصداقية الانتخابات، كان يضرب في العمق الدور الكبير والمركزي الذي تلعبه الانتخابات في التفريق بين معسكر الحاكمين ومعسكر المحكومين، وكان يضرب كذلك في مدى قدرة العملية الانتخابية على النقل الصادق والموضوعي للمطالب الاجتماعية إلى المستوى الأعلى (السوسيولوجي الفرنسي بيير روزنفلون). وهكذا ستعمل المعارضة المغربية آنذاك على نزع الشرعية عن العملية الانتخابية (من خلال اتهام السلطة السياسية بتزوير الانتخابات)، ما سيضرب في العمق دور العملية الانتخابية ومركزيتها في تحديد الثنائي المكون من الأغلبية والأقلية.
نزع المعارضة المغربية الشرعية عن العملية الانتخابية وعن المؤسسات التي تفرزها هذه الانتخابات، وخصوصا الثنائي (الأغلبية-الحكومة)، كان يفرض عليها تبني شرعية جديدة بديلة عن الشرعية السياسية التي تعتمد على مركزية الفعل الانتخابي، ما سيدفعها إلى شرعنه الفعل الاجتماعي من خلال المعارك السياسية والمعارك الاجتماعية.
دخول دستور 2011 حيز التنفيذ أراد من ورائه العقل الدستوري المغربي بالأساس بث الروح في العملية الانتخابية ونقل المعركة الانتخابية إلى موقعها المركزي والاساسي، خصوصا أن البشرية لم تجدا حلا جذريا لمشكل المشروعية إلا من خلال الانتخابات ومبدأ الأغلبية (حتى لا تتم صياغة القوانين من خلال الأقلية).
شرعنة الانتخابات والاتفاق حول دورها المركزي في تحديد (الأغلبية-الأقلية)، مع الاعتراف بدور الأقلية في المشاركة في وظيفتي التشريع والمراقبة (الفصل الستون من الدستور)، أمر عمل على التأكيد على أن الأغلبية تحكم (السيادة الإيجابية) والمعارضة تعارض (السيادة النقدية).
كما كان هذا يؤكد أن دور المعارضة يتمحور حول الاشتغال من داخل مربع السيادة النقدية، أي من داخل مربع الأفكار والحلول والاقتراحات البديلة (أو مربع الاستعداد للانتخابات القادمة، من خلال تفعيل القوة الاجتماعية داخل المعارك الانتخابية. الاشتراكي الفرنسي جان جوريس سيؤكد أن المطلوب “أن تتحول القوة العجيبة السلبية للبروليتاريا إلى قوة إيجابية انتخابية معبر عنها من خلال أغلبية انتخابية تبقى وحدها قادرة على تحريك الأمور نحو الأحسن”)، بدل تركيز الاشتغال من داخل مربع المنع والجمود والسياسة السلبية؛ ما يثبت الدور الأساسي والمركزي للمعارك الانتخابية في تعبيد الطريق نحو الانتقال إلى مربع (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية).
3) المصادقة على القانون التنظيمي للإضراب تنقل العمل النقابي في المغرب من مربع -النقابي المقاوم- إلى مربع -النقابي المفاوض-
مغرب ما بعد الاستقلال والاشتغال من داخل مربع (السيادة الفعلية- السيادة السلبية) عمل على شرعنة شخصيات مربع السيادة السلبية (الثوري-المقاوم-المناضل- عضو التنسيقيات…)؛ أي إن مربع السيادة السلبية عمل على إحياء واستمرارية وجوه الرفض والفراغ والمواجهة، ومنح الفعل النقابي في المغرب نوعا من النقابيين أطلق عليهم “النقابيون المقاومون”، وهم نوع من النقابيين نظر لهم بشكل دقيق الكاتب الفرنسي ألبير كاميس في كتابه “الرجل الثائر”، وهو رجل يقول لا وهو رجل يواجه.
بروز شخصية النقابي المقاوم كان في حقيقة الأمر جوابا عن إستراتيجية الحكم الفعلي المعتمدة على القوة والعنف. شخصية النقابي المقاوم كانت تترسخ أكثر من خلال الرجل الثائر الذي يمثل التمرد مسألة مركزية في ثقافته من خلال القطيعة، خصوصا أن معركة الاستقلال بالمغرب رسخت ثقافة المقاومة التي تعتمد على ثقافة المواجهة وعلى ثنائية (الصديق -العدو)؛ وهي الثقافة التي نظر لها المفكر القانوني والدستوري الألماني كارل شميت.
ثقافة المقاومة المعتمدة على ثنائية الصديق والعدو رسخت الصراع والمواجهة بدل ثقافة الحوار والتوافق والقواسم المشتركة، نظرا لغياب النص الدستوري المتوافق عليه، وغياب نص قانوني قوي يؤطر الأزمنة التي تشهد تصاعد الخلافات المجتمعية (غياب قانون تنظيمي يحدد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب).
ووجب الاعتراف بأن ديمقراطية الأغلبية الفعلية المعتمدة على القوة والعنف خلقت نوعا من القطيعة بين المشروعية السياسية الفعلية والمشروعية الاجتماعية، ورسخت الصراع المفتوح من خلال الفعل والفعل المضاد، ومنحت المغرب ما بعد الاستقلال وجهين متناقضين، وجه يمثل السيادة الفعلية والقوة والعنف من خلال صعود نجم وزارة الداخلية القوية من أجل تصدر المشهد السياسي؛ بينما سيدفع مغرب السيادة السلبية إلى واجهة الأحداث بصورة النقابي المقاوم، ما جعل المشهد السياسي المغربي تتصدره صورة الثنائي المكون من (وزير الداخلية-الزعيم النقابي) وثنائية (إدريس البصري-نوبير الأموي).
دستور 2011 والمصادقة على القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب سيعملان على نقل المغرب من الإستراتيجية المعتمدة على ثنائية (السيادة الفعلية- السيادة السلبية) إلى الإستراتيجية المعتمدة على ثنائية (السيادة الإيجابية- السيادة النقدية)، ما سيعمل على تعبيد الطريق نحو ولادة وجوه السيادة النقدية للحركة النقابية والانتقال من مربع -النقابي المقاوم- إلى مربع -النقابي المفاوض-.
القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب يعمل على خلق النقابي المفاوض، أي النقابي الذي يملك ثقافة الحوار والتوافق من خلال قوة الحجة وقوة الأفكار وقوة الاقناع، والنقابي صاحب المشروع البديل وصاحب الخيار الآخر، أي النقابي الذي يشتغل من داخل مربع السيادة النقدية، ويعمل بالتالي على شرعنة ميلاد عصر النقابيين الجدد، نقابيي التكوين ونقابيي الحجة ونقابيي الأفكار ونقابيي الانتصار في معركة التفاوض والتوافق، والنقابيين الذين يستبدلون الاحتكام إلى الشارع بالاحتكام إلى المؤسسات، والنقابيين الحداثيين والمنفتحين الذين يعيشون بتوافق مع المرحلة الزمنية والدستورية.
التجربة الفرنسية (التي عمل فيها الدستور والقانون المتعلق بالإضراب على خلق النقابي الفرنسي الجديد) ستقدم لنا درسا مهما في كيفية التعامل مع تمرير ملف صعب ومعقد، وهو قانون التقاعد لسنة 2023، من داخل مربع (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية)، حيث سيقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في لقاء تلفزي بعد المصادقة على إصلاح قانون التقاعد، إن النقابات تحولت إلى أقلية (هنا تم الاستناد إلى مركزية الانتخابات في الحياة السياسية وقدرتها على فرز الأغلبية والأقلية)، وإنها لم تستطع تقديم أي مشروع بديل قادر على إقناع الفرنسيين ويحقق المصلحة العامة (مبدأ الأغلبية-المشروع الأغلبي- ومبدأ السيادة النقدية-تقديم مشروع بديل).
لم تقف النقابات الفرنسية متفرجة على تصريح الرئيس الفرنسي، بل سيعمد المسؤول النقابي الفرنسي لوران بيرجير إلى التأكيد على أن ما قاله كذب، وأضاف أن فرنسا تعيش “أزمة ديمقراطية”. الرئيس الفرنسي لم يتأخر رده على تصريح المسؤول النقابي، إذ أورد: “عندما يعمد رئيس منتخب ديمقراطيا مع أغلبية برلمانية وإن كانت نسبية إلى تبني المشروع من خلال الاحتكام إلى المبدأ الأغلبي بشكل ديمقراطي فإن هذا يكذب من يدعي أن هناك أزمة ديمقراطية”. وهنا يتضح أن الفعل النقابي من داخل مربع ثنائية (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية) له دور إيجابي كبير في نقل الديمقراطية من مربع الصدام إلى مربع التوافق.
الخلاصة:
في كتابهما الذي يحمل عنوان “السلطة السياسية” سيؤكد ميشيل دوبري، القانوني والسياسي الفرنسي الذي يعتبر أحد آباء دستور الجمهورية الخامسة، وابنه جون لويس دوبري، رئيس المجلس الدستوري الفرنسي السابق، أن تنزيل الديمقراطية في فرنسا جاء ضدا على رغبة النظام السائد، لهذا السبب يصعب الشفاء بسهولة من هذا المعطى، ما يفسر الثقافة الفرنسية التي تحن وتجنح نحو الديمقراطية التصادمية. المغرب عاش سابقا الظروف السياسية نفسها، لهذا يحن هو كذلك إلى الديمقراطية التصادمية ويجد صعوبة في الانتقال من مربع (السيادة الفعلية-السيادة السلبية) إلى مربع (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية).
السوسيولوجي الفرنسي ميشيل كروزيه سيؤكد في كتابه، الذي يحمل عنوان “إننا لا نغير المجتمع بمرسوم”، أنه لا يمكن تغيير العقليات من خلال النصوص القانونية أو النصوص الدستورية؛ إلا أن مجموعة من التجارب الدولية أثبتت العكس، وأنه يمكن للنصوص القانونية أن تصنع التغيير، لكن ذلك يبقى في حاجة إلى المزيد من الوقت والجهد (فرنسوا لانغليت، المحلل الاقتصادي لدى مجموعة من القنوات الإعلامية الفرنسية، سيورد أن ميشيل روكار سنة 1991 قال إن تقديم مشروع لإصلاح نظام التقاعد في ظل الثقافة الصدامية التي تسود داخل الطبقة السياسية الفرنسية قادر على إسقاط خمس أو ست حكومات فرنسية قادمة، لكن المحلل سيؤكد أن تمرير الإصلاح سنة 2023 لم يكن بتلك الصعوبة السياسية السابقة لأن العقليات تغيرت وصارت تشتغل من داخل مربع الديمقراطية النقدية، من خلال مناقشة الكلفة المحاسباتية للإصلاح ودورها الإيجابي على التوازنات المالية)، لهذا يحتاج المغرب إلى المزيد من الوقت من أجل تعبيد الطريق لتغيير الثقافة السياسية المغربية التي تحن إلى الاشتغال من داخل مربع الديمقراطية السلبية والديمقراطية التصادمية، وتجد صعوبة في الانتقال إلى ثقافة سياسية تحت مربع الديمقراطية الإيجابية.
ترسيخ الديمقراطية الإيجابية من داخل مربع (السيادة الإيجابية-السيادة النقدية) لن يتحقق إلا من خلال تعبيد الطريق لولادة نخب جديدة من داخل مربع السيادة الإيجابية، سواء تعلق الأمر بنخب الأغلبية البرلمانية أو النخب الحكومية التي من المفروض أن تمتلك تكوينا عاليا متنوعا (قادر على استعمال الحجج التي تقنع وتجمع وعلى التبرير، الذي يبقى وحده جديرا بتمثيل الأغلبية البرلمانية وترسيخ المصلحة العامة)، يليق بنخب توجد في هرم الدولة، أي في المستوى الحكومي؛ وتعبيد الطريق كذلك من أجل ولادة نخب جديدة من داخل مربع السيادة النقدية، سواء في المعارضة أو في النخب النقابية (قادرة على صياغة البدائل والحلول التي تقنع غالبية المغاربة وتحقق المصلحة العامة وليس المشاريع الفئوية). وفي انتظار ذلك فإن النخب النقابية المغربية التي تفضل الاشتغال من داخل مربع “السيادة السلبية” ستجد صعوبة كبيرة في الانتقال إلى الفعل والعمل من داخل مربع “السيادة الإيجابية -السيادة النقدية”، وستجد صعوبة كبيرة في التأقلم مع الوضع الدستوري والسياسي الجديد ما بعد المصادقة على القانون التنظيمي المتعلق بشروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.