عندما نردد بأننا أبناء المقاومة الوطنية وسلالة حركة التحرير الوطنية، فلا نقصد المعنى البيولوجي وحده ولكن المقصود بالعبارة كلنا المغاربة والمغربيات، وهذا يعني بأن كل ما أنجز من تحرر وانعتاق ومكتسبات حقوقية وسياسية مشتركة، مهما بلغ حجمه وتدرجه وكلفته، تحول بالنسبة لنا تعهدات بينية والتزامات تبادلية وتعاقدات مشتركة، حول مصير مستقبل وطننا العزيز، وهي بمثابة توافقات تقرر مصير الوطن، ولسنا نزايد على أحد؛ فقد ترعرعنا في خضم شعارنا الخالد التحرير والوحدة والديموقراطية، وهو بالنسبة لنا رسالة جيل لجيل، ننشده بعزيمة وإصرار، من المهد إلى اللحد، في سياق استراتيجية النضال الديموقراطي والذي لا يعني لنا سوى الإنتقال من نظام فردي (مطلق أو نسبي) مستبد إلى نظام ديموقراطي، وبين نقطة البدء وغاية المسار تراكمات كمية معمدة بإرادة تحقيق التغبير (أو الإصلاح) وفق تحولات نوعية، ولأن عملية التحويل الكيفي تتخذ أشكال انتقالات تشريعية ومؤسستية وضمن سياقات سياسية وأمنية واجتماعية، وقد تحاول القوة الثالثة، خلال المسلسل/ العملية التحررية، مقاومة التغيير وإجهاض التحول، عبر التكيف عوض التحول، وقد يساعدهم في ذلك الزعم والتذرع بوجود إكراه بنيوي وصعوبة تحول دون “دمقرطة” نظام سياسي بطبيعته وراثي.
مما يطرح عقدة محاكاة وتمثل تجارب نادي الملكيات البرلمانية، وعذرنا في ذلك ضرورة الاستفادة من وعاء التسويات التي جرت على امتداد تاريخ الصراع بين النظام والمعارضة، وهي تراكم من تمارين اتخذت شكل تعاقدات حول أشكال التداول التوافقي على تدبير السياسة العمومية، ما عدا الشؤون الخارجية والدينية والأمنية، والتي تظل مجالات محفوظة للملك، فشلت معظمها لوجود قوة ثالثة ولعدم انخراط كافة القوى “المفترض” أنها حية، ناهيك عن عدم الإستعداد لأداء الكلفة؛ خاصة بالنسبة للذين سبق وأن أدوا الثمن من حياتهم وراحتهم ووقتهم ومالهم، وذلك على إثر انسداد الآفاق وشدة القمع المسمى سائلا.
وأمام تيه البوصلات والعياء السياسي الذي أصاب النخب ، لم يعد في المقدور سوى ترتيب النهايات بأقل خسارة؛ وعلى الخصوص وأننا جميعنا لم نحين أحلامنا ولم نجود مناهج اشتغالنا، وحان الوقت لكي “نعرف أنفسنا” حقيقة من خلال إنصاف بعضنا البعض والاعتراف بقدرات بعضنا البعض، وبنفس القدر نقيم ونقوم أعطابنا، التي صنعناها أو ورثناها؛ ونحدد مهامنا وأدوارنا بكل مسؤولية وجدية وشفافية، مع التمييز فيما بين القبعات التي نلبسها تماهيا ولبسا فيما بين الفعل الحقوقي والعمل الحزبي؛ فمن المفارقات البينة أن يهتم وبشكل موازي ومتزامن، على سبيل المثال لا الحصر، الحزب السياسي بتقييم حصيلة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة وهو موضوع حقوقي بامتياز، في حين تتولى المنظمة الحقوقية التابعة له مقاربة حق الشعوب الأخرى، غير المغربية، في تقرير مصيرها، وهو موضوع سياسي محض، مدرج لدى مجلس الأمن وليس لدى مجلس حقوق الإنسان؛ وهي ظاهرة تتطلب منا معالجة أسبابها في العلاقة مع المشهد الحزبي المترهل، مما يطرح سؤال التأهيل الذاتي والموضوعي، بما يعنيه من إعادة ترتيب الاولويات الوطنية والخاصة (لدى الدولة ولدى الأحزاب السياسية)، فأغلب نقط جدول الأعمال الوطني مطروحة من أعلى، ومفروضة جلها من الخارج والذي فرض علينا التخلف كجبرية سياسية وقدرية اقتصادية مقابل حمايات مفترضة لتهديد افتراضي.
من هنا تطرح أسئلة السيادة واستقلالية القرار الحزبي عن القرار الدولتي، واستقلالية هذا الأخير عن زمن التحولات الجيوسترتيجية، في وقت كنا نراهن فيه على تنامي إرادة الدولة المغربية في منحى فك الإرتباط مع وظيفة/ لعب دور دركي المنطقة وجمركي الحدود، وذلك بخوض مغامرة الندية على المستوى الإقليمي/ المتوسطي والإفريقي، والموازي لتنامي الوعي بأن مغرب اليوم ليس هو نفسه مغرب الأمس، سوسيولجيا وسياسيا وأمنيا؛ وإن صار مصدر القمع ليس من الدولة وعقلها الأمني فقط وإنما أيضا صار مصدر الفوبيا يستمد مقوماته من الإرهاب الفكري الذي تمارسه الأحزاب والفعاليات السياسية والفكرية والثقافية على بعضها البعض، إلى درجة تماهي عمليات تصنيف المختلف معهم بالخونة والكفار والعياشة، مما كرس ثقافة الإنشقاق والإنفصال والإستئصال والنزعة الإلحاقية أو الذيلية، وذلك خلافا وخرقا لأنجع قانون الجدلية الذي لا يعترف لشرعية صراع المتناقضات إلا داخل الوحدة، والتي لا يمكن تصور التحول الكمي إلى التحول الكيفي إلا بالتراكم داخلها اي الوحدة كوعاء، مما يراكم خصاصا على مستوى كيفية تدبير الإختلاف وبالأحرى تدبير المشترك العظيم كما ونوعا.
ففي ظل هذا الترهيب الفكري يصعب تمثل الثقة والإطمئنان لأي تواصل أو تفاوض أو تفاعل مع المبادرات لأنه لا تعاقد ولا توافق (ولو في إطار تبادل المصالح وتوزيع المنافع) في غياب الوضوح والثقة، وكلاهما جسر ضروري من أجل العبور الآمن نحو الديموقراطية كغاية وليس فقط كوسيلة (عددية) براغماتية؛ وفي آخر التحليل يبدو أن الأولوية ينبغي أن تكون للدولة والوطن بالتحصين والحماية، أما النظام فلن يغترف حمايته إلا من دولة المجتمع وقواها الحية، وبذلك وجب ضمان الانتقال الأمني في العلاقة مع العقيدة، لأجل إنجاح أي انتقال منشود!
مصطفى المنوزي