“التْرَامْبيَة”، مفهومٌ في السياسة، اكْتملت مُقوِّمات إدماجه في الإعلام السياسي، ومنه، يتجه إلى الاستقرار في الدِّراسات الجيواستراتيجية. المفهوم يمتلك حقوق تأليفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أطلقه في ولايته الأولى تحت شعار “أمريكا أوَّلا”، وهو الآن بصدَد إحْيائه وتدْقيقه وإغْنائه بشعار “عوْدة أمريكا”، في ولايته الثانية، التي انْطلقت رسميا قبل أقل من شهرين.
خلال الحملة الانْتخابية الرئاسية، أدْمَن المرشح ترامب إطلاق تصريحات فيها الكثير من الوُعود والوعيد، لداخل أمريكا ولخارجها على السَّواء. وفي الداخل كما في الخارج كثيرونَ أحالوها على ما اعتبروا تلك التصريحات مُجرَّد تعبيرٍ عن عربَدةٍ ناتجةٍ عن الإفراط في الانتشاء بشَهوَة السلطة، أو بالحُلم بها لدى المرشح للرئاسة.
ما أن تسلَّم “العمُّ” ترامب سُلطة رئاسة أمريكا حتى وضع العالم أما حقيقة أنه يعني ما يقول ويَعيه. أول ما فعله هو توقيع عشرات القرارات دُفعة واحدة، بعضها لإعادة ترتيب مفاصل الإدارة الأمريكية، وأهمّها تجديد قيادة وِكالة المخابرات الأمريكية. وبعضها الآخر لتأكيد التطبيق الخارجي للترامبية عبر فرض رسوم جمركية جديدة مُرتفعة على السِّلع من المنشأ الأوروبي، الصيني، الكندي والمكسيكي.
الرئيس لم يدَع وُعودَه السياسية تُجاه التوتُّرات الدولية المُلتهبة لتبرَد أو حتى لتتبخر. ضغط على رئيس وزراء إسرائيل لكي يوقف إطلاق النار في غزة، والرضوخ لبعض شروط حماس. وأرسل وزير خارجيته إلى العربية السعودية للاجتماع، الأولي، مع وزير الخارجية الروسية. واستدعى رئيس أوكرانيا للبيت الأبيض لتوقيع اتفاق استفادة أمريكية من المعادن الأوكرانية، ولإطلاق مسار سلمي لوقف حرب أوكرانيا.
الممثل لدور الرئيس في أوكرانيا، السيد فولوديمير زيلينسكي تصوَّر أن الرئيس الأمريكي، إنما يريد أخذ صُوَر معه في البيت الأبيض، وتغليف الحدث بكلام يفتح سرابَ سلام عبر مُحادثات طويلة المسار والمَدى…
“الترامبية” كان يَلزمها مَشهدية هوليودية لكي تُعرِّي عن جينتها الكُوبُووِيَة. الجلسة الصاخبة في البيت الأبيض، التي “صَخَبَ” فيها السيد ترامب في وجه “المُمثل” الأوكراني، كانت المشهد الذي أطْلق رسميا “الترامبية” الصارخة. أعلن السيد ترامب فيه للعالم قبل السيد زيلنسكي أنه جادٌّ فيما يأمُر بِه، ومُصمِّم عليه ولا حدود لغضبه من أيِّ استهانة به. طرَد الأوكراني، وفيما بعد سيُعلن وَقف كلِّ المُساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا في حرْبها ضدَّ روسيا.
تابع العالم تلك الزمجرة الأمريكية في واشنطن، وحضرَت في ذهن كل أطراف الوضع الدولي، أغلب ظني، مَقولة سياسي أمريكي كان نَصح فيها “أعداء أمريكا بالخوف منها مرَّة ونصح أصدقاءها بالخوف منها مرتين”…
أياما قليلة بعد واقعة البيت الأبيض، دعا الرئيس الفرنسي القادة الأوروبيين وحلفائهم وخبراء للاجتماع في باريس للتباحث في تداعيات “الترامبية” على أوروبا. اللقاء صاحبه حديث إعلامي، في شكل “اكتشاف” تبعية أوروبا للاقتصاد الأمريكي، ضُعفها العسكري ورخاوَة اتحاد دولها.
في اللقاء، رئيس الوزراء البريطاني قال بأنه سيشتغل هو والرئيس الفرنسي على اقتراح مخطط سلام، بشأن حر أوكرانيا، لعرضه على الرئيس الأمريكي. أما السيد زيلنسكي فعاد إلى التعبير عن أسفه مشددا على امتنانه لأمريكا وعن استعداده لتوقيع الاتفاق المعدني مع ترامب وجاهزيته لوقف إطلاق النار والبحث عن اتفاق سلام مع روسيا. وهو اليوم، يجَهز بذلة مدنية محترمة على أمل أن يدعوه الرئيس ترامب لحفل الشكر والتوقيع.
“الترامبية” مُتَغيِّر في الأوضاع الجيواستراتيجية، فيما يشبه زلزالا بمَركزه الأمريكي وارتداداته العالمية… وضمنها المنطقة العربية، و”الترامبية” ليست من مزاج السيد دونالد ترامب، هو يُضفي عليها نَكَهات من شخصيته، إنها تعبير عن مصالح المجمَّع الصناعي الأمريكي المدني بمُلحقاته العقارية والمعلوماتية والخدماتية. السيد ترامب يُعبر فيها عن توجُّهات الدولة العميقة الأمريكية. له أسلوبُه الشخصي في التعبير السياسي، المتوسل ببهلوانية تواصلية مدروسة. الرئيس لا يخوض إلا فيما تملَّك من ملفات وفق المصلحة الأمريكية.
في ندوة صحفية، مُؤخَّرا، سألته صحفية أفغانية عن علاقة الإدارة الأمريكية بطالبان. تلك العلاقة ليست شاغله اليوم. ليست شاغل الدولة العميقة الأمريكية.
أجاب ترامب الصحفية الأفغانية مُبْدِيا إعْجابَه بـأناقتها وبالرنَّة الموسيقية في لكنتها الإنجليزية، وتمنّى لها ولبلدها السلام. تملُّصٌ ذكي وأنيقٌ وتخلُّصٌ من موضوع شائك، هو من مَنْسيات أمريكا اليوم…
تحولات جيواستراتيجية جارية التشكّل في الوضع العالمي… ستؤدي إلى إعادة ترتيب انحيازات العديد من بلدان العالم إلى القوى الوازنة في حركية الصراعات الدولية… ولذلك، بالتبعية، تداعياتٌ على بُؤَر التوتُّر الساخنة، والتي تستقطب احتكاكات دولية مُدوية، من حيث إخمادها أو، أقلاًّ، التخفيف من حدّتها…
أوكرانيا واحدة من تلك البؤر والقابلة للإخماد. وفي ذلك تتقاطع مصالح روسيا مع أمريكا ولن تتأخر أوروبا عن الاندماج في تلك التقاطعات. وضع الشرق الأوسط أكثر تعقيدا بسبب العدوانية الإسرائيلية الساكنة في هويتها، ولكن التداعيات الجيواستراتيجية العالمية، قابلة بأن تفكك بعض اشتباكاته. “الترامبية” ستفرض ذلك وتحث عليه لصلة الشرق الأوسط بالوضع العربي عامة ولتماسِّه مع آسيا. طبعا، في كل ذلك مصالح اقتصادية واستراتيجية كبيرة وبعيدة المدى لأمريكا، خاصة في سياق صراعها الحاد مع الصين أساسا.
هذا الإعصار العالمي، لن يستثني المنطقة المغاربية. لا بل إنها من مشمولاته. وفيها المنازعة الجزائرية في مغربية الصحراء، وهي التي نشأت في سياق نزاعات حقبة صراعات دولية وَلَّت. وهي حقبة الحرب الباردة، رغم أن تلك المنازعة كان له منطقها الخاص الذي لا صلة له باستقطابات الحرب الباردة لما بعد الحرب العالمية الثانية. هو نزاع من إنتاج وهم جزائري بالتموقع في ريادة إفريقية، لا تملك لها مقوماتها، وأموال الغاز السائلة وحدها لا تصنع ريادة قارية، فضلا عن أن محاولة عزل المغرب عن امتداده الإفريقي، بزرع دَوَيْلَة مُصطنعة تملكها الجزائر لعزل المغرب عن إفريقيا لن ولم تضعف الجاذبية الإفريقية للمغرب. في الحالتين، حوالي خمسون سنة من تغذية نزاع الجزائر ضد المغرب، لم تفعل سوى في التكريس الوطني لاسترجاع المغرب لأقاليمه الصحراوية وتثبيت وحدته الوطنية، أرضا وشعبا، بكل ما أثمره ذلك من توسع وتعمق للاحتضان الدولي لتلك الحقيقة. وأيضا في الحالة الثانية، المغرب الإفريقي هو اليوم أقوى وأوضح وأفعل في إفريقيته وأكثر تنافُعا مع إفريقيا.
في الوضع الدولي الراهن ومستجدات تحولاته الجيواستراتيجية، المنازعة الجزائرية في الحق الوطني المغربي باتت شاذة ومُشوِّشة ليس إلاَّ، وعلى علاقات الجزائر أوَّلا، في إفريقيا وفي الفضاء المتوسطي. وهي منازعة تُرهق قيادة الجزائر اليوم، في محاولة استعادة علاقاتها مع إسبانيا التي هي مَن وتّرتها بسبب انحاز إسبانيا للحق المغربي، وقيادة الجزائر هي التي تعاني اليوم من أزمتها مع فرنسا، وهي التي أزَّمَت علاقاتها معها، أيضا، بسبب اعتراف فرنسا بمغربية الصحراء. وتلك القيادة هي التي تتَصيّد كل مناسبة لمجاملة الولايات المتحدة، مُتغافِلة عن اعتراف إدارة ترامب بمغربية الصحراء… تتجنب إشعال الغضب الأمريكي عليها… ومع هَزيز عاصفة “الترامبية” ترفع قيادة الجزائر منسوب إرضائها للإدارة الأمريكية. ما يفضح لمن لا يعرف، أن موضوع الصحراء لدى الجزائر مُجرّد عكّاز لحقدها ضد المغرب…. تستعمله بانتهازية وانْتقائية في علاقاتها الخارجية، وفي أكثر المرات بجعجعات ليس إلا…
اختيار التوازن والانفتاح في علاقات المغرب مع فُرقاء الصراعات الدولية، مسلكٌ نهجته الديبلوماسية المغربية منذ استقلال المغرب. يحترم التحالفات الدولية دون أن ينحشر فيها، وعلاقاته مع قواها الفاعلة فيها تميزت دائما بالتقدير المتبادل، وبحدود واضحة للتعاون، وكان ذلك حتى والحرب الباردة على أشدها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ومن هنا ليس على المغرب أن يُغيِّر جلده ولا أن يتعب ليجد له موقعا في التحولات الجارية. إنه ثابت في اختياراته وواضح فيها. في نزاع الصحراء، المغرب في الموقف الصح، المدافع عن حقه الوحدوي الوطني، الذي يستقطب التفهُّم الدولي وينسج حوله الشرعية الدولية، وترامب، الذي يفزع بلدانا، من بينها الجزائر، لديه وضوح في معطيات النزاع، وله موقف صريح فيه مناصر للمغرب، منذ أزيد من أربع سنوات… أي قبل أن يعود إلى الرئاسة الأمريكية بهذه السرعة القصوى في “الترامبية”…
لندع “الترامبية” بمفاعيلها وشأنهاّ، يهمني هنا المغرب
الحكمة المغربية في التدبير السياسي لعلاقات المغرب الخارجية، صادرةٌ عن دولة قُدَّتْ من تاريخ… تَكْتنز خِبرةَ تاريخية نوْعية… تقوم على الثقة في الذات وتحصينها بالاستقلالية الوطنية… ثم الانفتاح على العالَم وفتح كل نوافذ المغرب على رياحه… لذلك وَجد المغرب نفسَه مُندمجا وفاعلا في الاتجاه العام والصحيح للتاريخ… في العالم كما في المنطقة المغاربية، هَديرُ الاهتزازات الجيواستراتيجية يُسمَع هناك وهُنا… والمغرب جاهزٌ للإفادة منها وبما ينْفَعه… وهو كان دائما مُمْتلكا للَوَاقط التحوُّلات تلك بما يُمكنه من التمَوْقُع فيها مُفيدا وفاعلا لغيره ولمَن أراد وتعقَّل من جيرته ومُحيطه…