عندما شرعت في قراءة بلاغ الديوان الملكي كما عممته وكالة المغرب العربي للأنباء، والمتعلق بجلسة العمل التي ترأسها جلالة الملك محمد السادس، المخصصة لموضوع مراجعة مدونة الأسرة، قررت ألا أكتب عن الموضوع .وذلك إلى أن تتضح الصورة أكثر، مع فسح المجال للسلطة التنفيذية لتبلور النص في مشروع متكامل أو فقط في مسودة مشروع، كل الإصلاحات المتوافق عليها بين اللجنة المُعينة والمجلس العلمي الأعلى، والجميع طبعا تحت رعاية أمير المؤمنين. رغم أنني سبق وأفردت في الشهور السابقة خمس أعمدة صحفية للنقاش حول المدونة.
لكن، وأنا لا أزال أتفحص على اللوحة الإلكترونية “الطابليط” الفقرة ما قبل الأخيرة من البلاغ الهام، قفز أمام عيني، على الشاشة وبدون استئذان، شيخهم وكبيرهم، والكلمات تسقط من فمه كما تتساقط النفايات من كيس مخروم، على حد تعبير الصحفي الكبير حمدي قنديل.
وبعد أقل من ساعة، تحول الفضاء الذي كان أزرقًا إلى فضاء بلا لون، بتعليقات تتأرجح من جهة بين التهكم والتنكيت بما هو عالق في ذاكرة الناس البسطاء المليئة بممارسات مجتمعية ترسخت في زمن الظلم والتخلف والقهر ، ومن جهة أخرى، الإشاعات المقصودة التي تستقي عباراتها وأحكامها من قاموس أيديولوجي وفكر سياسي بغلاف ديني دعوي وجهادي، يرقص بين الإيمان والكفر، والجنة والنار، وفق أجندة تختلط فيها مواعيد يوم القيامة بالاستحقاقات العامة.
وهكذا، تصبح محاولة تهييج الشارع وتقليبه “فرض عين”؛ فإن قام به بعضهم، لا يسقط عن البعض الآخر، فما بالك والأمر يتعلق بقضية المرأة، وهي آخر معاركهم، وحكاية وجود أو عدم.
لا أدري لماذا تذكرت سنة 2004، عندما صادق البرلمان لأول مرة في تاريخ المغرب القديم منه والحديث على مدونة الأسرة، في وقت كانت بلادنا لا تزال تحاول الخروج من أجواء اعتداءات 16 ماي 2003 الإرهابية. آنذاك، خرجت الفنانة المغربية ذات الصوت القوي، نجاة اعتابو، لتجوب أقاليم وجهات المملكة، تنشر الأمل والبهجة والفرح بين الناس، ولتشرح بطريقة فنية، وعلى إيقاع شعبي، “جديد مدونة الأسرة”، التي شكلت في حينها قفزة في الجوهر، وثورة في الشكل.
ففي الوقت الذي كانت نجاة تنشد:
“واش سمعتوا المدونة…
أو… نشرحها ليكم أنا،
الشرع والقانون يعطيه الصحة،
كاد الطرحة، ولي كال تكون تكون،
نطويو الصفحة، نراعيو الملحة، وتعم الفرحة!”
في نفس الوقت، كان زعيم السلفية الجهادية زكريا الميلودي، ومعه “مول الصباط” وآخرون، يبيحون أموال الآخرين، ويحسبونها مغانم وفيئًا. أما أرواح الناس، فهي إما دماء للكافرين أو للمساندين “للطاغوت “والدعوة مفتوحة للشباب من أجل “الشهادة” ليفوزوا بالحياة هناك، وسط حور العين.
لكن، ونحن في نهاية 2024، أي بعد أكثر من عشرين سنة على إعادة النظر في تدبير الحقل الديني ببلادنا – الذي حُدِّد إطاره العام بخطاب ملكي سامي، بما فيه إحداث المجلس العلمي الأعلى وتكليفه حصريًا بالإفتاء في القضايا التي تعرض عليه – نجد أن هناك من يطل على بسطاء الأمة أو على شباب وطلاب المدارس العليا ووعيهم في طور التشكيل، ليطلق لسانه بدون حسيب أو رقيب، فيحلل ويحرم ما يشاء.
يقول لبعضهم، بالفرنسية هذه المرة، إن سفر الفتاة للدراسة وحدها لا يجوز، وعليها الزواج قبل متابعة دراستها. وإن المرأة غير المضطرة لا يجوز لها العمل، وستحاسب في الآخرة على أبنائها. وإن تحقيق الذات أو رفاهية الحياة ليسا من الفريضة ولا السنة ولا الاجتهاد ولا عمل أهل المدينة.
كم هي خيبتنا الآن، نحن جيل الستينات والسبعينات، الذين كنا نستيقظ في الصباح على صوت العالم الجليل الشيخ المكي الناصري، وهو يفسر ما تيسر من الذكر الحكيم على أمواج الإذاعة الوطنية بالرباط بعد صلاة الفجر، ويعاد بثه في المساء بصوت هادئ وذي رنة خاصة، وليس كهذا النعيق الذي يصدح هنا وهناك.
المكي الناصري، العالم الوطني الغيور، والوزير المحترم.
وكم هي حسرتنا، نحن الذين كانت تحيط بنا أفكار واجتهادات رئيس رابطة علماء المغرب، العلامة عبد الله كنون، من طنجة، الذي ألّف موسوعته الرائعة “النبوغ المغربي”، ليرد بها على أهل الشرق الذين لم يكونوا يقدرون علماء الغرب الإسلامي وقدرتهم على الإبداع والاجتهاد.
عبد الله كنون، المتسامح الذي وقع على ترخيص إحداث كنيسة بطنجة عندما كان مسؤولًا على المدينة.
أما في سوس، فقد كانت آراء ومواقف العلامة المختار السوسي، صاحب “سوس العالمة”، الذي ألّف “المعسول في الإلغيين”، وهي موسوعةً في 8000 صفحة و20 جزءًا، تضم تراجم لنحو 4000 من العلماء والفقهاء والأدباء.
المختار السوسي، العضو الفاعل في أول لجنة لوضع مدونة الأحوال الشخصية.
كم هي حسرة جيل بأكمله عاش على أفكار قامات كبيرة، حين يجد نفسه أمام أقزام كل مشروعهم قائم على أن تبقى المرأة ممددة، لا واقفة. وشرح الواضحات من المفضحات.