Site icon الشامل المغربي

شعور سامٍ أم حالة مرضية؟

SAINTVALENTIN.jpg



قال الأكاديمي المغربي عبد الفتاح لحجمري إن “الحب، استنادًا إلى نظرية مُثلث الحب التي قدّمها Robert Sternberg، يتكون من ثلاثة عناصر رئيسية: الحميمية، الشغف، والالتزام”، مضيفًا أن “الثقافة العربية تتميز برؤية متجذرة عن الحب تستند إلى القيم الاجتماعية والتقاليد، إذ تُعدّه شعورًا يعبر عن التزام عميق ومشاعر سامية”.

وأشار لحجمري، في مقال له بعنوان “هل الحب مرض نفسي؟”، إلى أن “الحب يصبح ‘مرضًا’ حينما يتحول إلى حالة من الهوس، كما أن الحب المثالي، الذي نقرؤه في الأدب والروايات، يمكن أن يتحول إلى تجربة مؤلمة تعبر عن العجز والتعاسة، حين يمتزج بمشاعر القلق والخوف من الفقد”.

وطرح عبد الفتاح الحجمري، ضمن المقال ذاته، مجموعة من الأسئلة للتأمل حول الحدود الفاصلة بين الحب الحقيقي والهوس العاطفي، وما إذا كان الحب يُعتبر تجسيدًا للحرية أم قيدًا للذات، وطبيعة الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل فهم مشاعر الحب، وكيف يعكس الحب التوتر بين الرغبة في الاتصال والقلق من الفقد.

نص المقال:

1

يُعتبر الحبّ، بمختلف تجلياته، من أعقد الظواهر الإنسانية وأكثرها تأثيرًا. تناولته الأدبيات والفنون وعلم النفس بوصفه مكونًا أساسيًا للتجربة البشرية، إذ أسهمت النظريات والأساطير المرتبطة به في صياغة تصوّراتنا حوله وفهمنا العميق لمعانيه.

تُعَدُّ نظرية مُثلث الحب التي قدّمها Robert Sternberg إحدى أبرز النظريات في علم النفس. استنادًا إلى هذه النظرية، يتكون الحب من ثلاثة عناصر رئيسية: الحميمية، الشغف، والالتزام. تعبر الحميمية عن الارتباط العاطفي والتفاهم المتبادل بين شخصين، وقد نجدها في علاقات الصداقة القوية حيث تكون الحميمية حاضرة دون وجود الشغف. في المقابل، يجمع الحب الرومانسي بين الحميمية والشغف، مثلما هو الأمر في علاقة “روميو وجولييت”، حيث يعبّر هذا الحب عن شغف عميق، بيد أنه قد يتعرض في بعض الأحيان للعديد من التحديات التي يفرضها المجتمع. أما الالتزام، فهو العنصر الذي يضمن بقاء العلاقة، كما هو الأمر في الزيجات التي تستند إلى المودة الدائمة.

وتُعدُّ الأساطير عنصرًا أساسيًا في فهم الحب، إذ تجسد “أفروديت”، إلهة الحب والجمال، رمز الجاذبية والرغبة. وفي الفلسفة الغربية، يتسع مفهوم الحب ليشمل جوانب متعددة مثل حب الذات وحب المعرفة. عرّف أفلاطون الحب بأنه قوة تربط بين الروح والجسد، ورأى في “الحب المثالي” طريقًا إلى المعرفة والحكمة. وفي “مأدبة أفلاطون”، يتناول الفيلسوف أثر الحب في تشكيل الكينونة، معتبرًا إياه محفزًا على التطور الشخصي والنمو الروحي. في المقابل، تتميز الثقافة العربية برؤية متجذرة عن الحب تستند إلى القيم الاجتماعية والتقاليد، إذ تُعدّه شعورًا يعبر عن التزام عميق ومشاعر سامية. هكذا، يُعدّ الحب في الشعر العربي، سواء في عصوره الكلاسيكية أو الحديثة، من أبرز الموضوعات التي تجسّد عمق المشاعر الإنسانية وتنوعها.

2

يُعدُّ كتاب Histoires d’amour (“قصص في الحب”) لجوليا كريستيفا دراسة ثرية تستكشف الحب بوصفه ظاهرة إنسانية تتشابك فيها الأبعاد الثقافية والنفسية والأدبية. تستهل كريستيفا عملها بالتأكيد على أن الحب ليس تجربة فردية معزولة، بل هو تجربة جماعية تتشكل من خلال السياقات الاجتماعية والتاريخية التي يمر بها الأفراد. فالحب يحمل خصائص متعددة تعكس تقاليد المجتمعات وتفاعلها مع القيم الإنسانية.

تتناول كريستيفا في سياق تحليلها الأنماط المختلفة للحب، بدءًا من الحب الرومانسي الذي يتسم بالعاطفة الجارفة، مرورًا بالحب العائلي الذي يتجسد في الروابط الأسرية، وانتهاءً بالحب غير المتبادل الذي يثير مشاعر الألم والخيبة. تستعرض كريستيفا في هذا السياق أمثلة أدبية مستمدة من تجارب شخصيات في روايات شهيرة، مما يتيح فهمًا أعمق للتعقيدات والعواطف المتناقضة التي تتولد عن علاقات الحب، لتخلص إلى استنتاج عميق مفاده أن الحب يشكل حالة إنسانية معقدة، تعكس التوترات الداخلية للأفراد والتفاعلات الاجتماعية المحيطة بهم، مما يجعله ظاهرة تستحق التأمل والتفكّر.

هل للُّغة دورٌ في تجسيد مشاعر الحُبّ؟

اللغة وسيلة للتعبير، لكنها قد تتحول أحيانًا إلى قيد يصعب التّحرر منه.

تعي جوليا كريستيفا هذه الحدود بوضوح، ولذلك تستند في تحليلاتها إلى نظريات الفيلسوف وعالم النفس جاك لاكان، الذي يشدد على دور الرغبة والنقص في فهم العلاقة بين الحب واللغة. فالكلمات قد تكون أداة للتعبير عن الحب، لكنها في الوقت ذاته قد تجسد حدودًا في التواصل العاطفي، مما قد ينجم عنه شعور بالعزلة أو سوء فهم بين المحبين.

عندما تتناول جوليا كريستيفا موضوع سيغموند فرويد والحب، تدرك أن مفاهيم فرويد النفسية تعكس التعقيدات الكامنة في الحب بوصفه ظاهرة ترتبط بالصراعات الداخلية والرغبات المكبوتة. فالحب، باعتباره فعلًا نفسيًا معقدًا، يتضمن مجموعة متنوعة من التوترات النفسية. إذْ يرى فرويد أن الحب مرتبط بالنقص والحنين، مما يجعله تعبيرًا عن سعي الفرد لإشباع احتياجاته العاطفية والنفسية.

يقودنا التحليل النفسي إلى استنتاج أن الرغبات والأحاسيس المرتبطة بالحب غالبًا ما تكون كامنة في اللاوعي. لذلك، يمكن أن يعكس الحب مشاعر غير مُتحقَّقة أو رغبات قديمة تعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة. كما تولي كريستيفا اهتمامًا بتحليل مفهوم الصراع بين الحب والامتلاك، كما يتجلى في نظرية فرويد، حيث يشير إلى أن الحب قد يتحول أحيانًا إلى رغبة في التَّملك والسيطرة، مما يؤدي إلى توترات وصراعات في العلاقات بين الأفراد.

3

تتناول جوليا كريستيفا في كتابها “قصص في الحب” شخصية “دون جوان” باعتباره مثالًا معقدًا للعلاقة بين الحب والتّملّك. تمثل هذه الشخصية تجسيدًا للبحث عن النفوذ والتأثير من خلال العلاقات العاطفية، ويُنظر إلى دون جوان على أنه رمز للفتى المغامر الذي يمارس سحره على النساء. إنه صورة جذابة ورومانسية عن الحب. ومع ذلك، تسلط كريستيفا الضوء على الجانب الأكثر قتامة في هذه الشخصية، موضحة أن الحب بالنسبة إليها يمثل سعيًا نحو السيطرة بدلًا من كونه شكلاً من أشكال التواصل العاطفي.

وبهذا المعنى، تُبرز كريستيفا أن حب النفوذ الذي يجسده “دون جوان” هو نوع من الحب قد يكون مدمراً حين يسعى الأفراد من خلاله إلى تحقيق أهدافهم الخاصة من غير مراعاة مشاعر الآخرين.

في فصل “أمراض الحب: حقل المجاز”، تستعرض جوليا كريستيفا السمات النفسية والاجتماعية المحيطة بتجربة الحب، موضحةً كيف يمكن أن يتطور ليصبح شبيهًا بمرض نفسي، مما يؤدي إلى توليد حقلٍ غني بالمجازات والدلالات الثقافية.

على هذا النحو، يُمكن أن يصبح الحب “مرضًا” حينما يتحول إلى حالة من الهوس، كما أن الحب المثالي، الذي نقرؤه في الأدب والروايات، يمكن أن يتحول إلى تجربة مؤلمة تعبر عن العجز والتعاسة، حين يمتزج بمشاعر القلق والخوف من الفقد. وفي هذا السياق، تعكس العواطف المتقلبة والصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد مجمل المجازات التي تعزز الفهم الثقافي للحب باعتباره ظاهرة يمكن أن تتراوح بين السعادة المطلقة والألم العميق.

تستثمر كريستيفا أمثلة من الأدب الكلاسيكي والمعاصر لتوضيح كيفية تجسيد الكتاب والشعراء هذا الإحساس العاطفي من خلال المعاناة الناتجة عن الحب المفقود أو الحب غير المتبادل، كما يتجلى في أعمال “بروست” و”دوستويفسكي” وغيرهما.

وتسلط الضوء على الجانب المجازي للحب، مشيرةً إلى أن الحب قادر على أن يصبح حقلًا غنيًا بالتعبيرات والاستعارات التي تتجاوز المعاني المباشرة، مما يفتح آفاقًا جديدة للتفكير ويسمح بتأمل تعقيدات المشاعر والعواطف التي تلامس جوهر الوجود البشري.

بهذا المعنى، تعيد كريستيفا صياغة مفهوم الحب من منظور الأمراض العاطفية والمجازات الثقافية، مشيرةً إلى أن الحب يمكن أن يكون تجربة شافية أو مدمرة، وذلك بناءً على السياقات المحيطة به. هكذا، تركز في سياق تحليلها لفلسفة الحب على مفهوميْ التوق والحنين، معتبرةً أن الحب يرتبط بالشعور بافتقاد الآخر، مما يولّد إحساسًا عميقًا بالتوق.

4

أفترض أن جوليا كريستيفا، بقولها “في اندفاع المحب، تفقد الهويات الخاصة حدودها”، تعبير واضح عن تجربة الحب باعتباره ظاهرة تُحرر الأفراد من القيود التي تفرضها عليهم هوياتهم الشخصية. وفي سياق هذا التحليل، يُعتبر الحب قوة تدميرية تتجاوز البُنى الاجتماعية والنفسية التي تضبط علاقات الأفراد، الأمر الذي يمكّنهم من التحرر من المعايير التقليدية وفتح سبل جديدة للتواصل والتفاعل، حين يسيطر عليهم شعور الحب الجارف.

ليست “قصص في الحب” لجوليا كريستيفا مجرد دراسة عن الحب، بل إنها دعوة لإعادة فهم هذه العاطفة في حياتنا بوصفها إحساسًا يعيد تشكيل الهويات والعلاقات.

ما هي الحدود الفاصلة بين الحب الحقيقي والهوس العاطفي؟

هل يُعتبر الحب تجسيدًا للحرية أم قيدًا للذات؟

ما الدور الذي تلعبه اللغة في تشكيل فهمنا لمشاعر الحب؟

كيف يعكس الحب التوتر بين الرغبة في الاتصال والقلق من الفقد؟

هل يمكن فهم الحب باعتباره مجموعة من المجازات الثقافية بدلاً من كونه مجرد شعور فطريّ؟

أسئلة للتأمل؛

وإلى حديث آخر.



Source link

Exit mobile version