أوجه الاختلاف بين التغيرين في العراق وسوريا واضحة “أوضحناها في مقال سابق”، الكفة فيها عند المقارنة لصالح الحالة السورية وهي ما ترجحها لان تكون أقرب إلى النجاح كما تقول المؤشرات حتى ان العراقيين بدأوا بملاحظة كيف انهم لم يتمكنوا بعد سنين من التوصل إلى ما وصل اليه السوريون في أسابيع قليلة، لكن هل ان كل شيء مختلف بين البلدين؟ بلا شك الجواب هو: كلا، لأن عوامل التأثير متعددة بين داخلية وخارجية، والمؤثرات الخارجية مع الاستعدادات الداخلية في البلدين متشابهتان إلى حد كبير/
فالقوى الإقليمية والدولية الحاضرة في سوريا هي نفسها كانت حاضرة في العراق – أمريكا وإيران وتركيا- مع اختلاف جزئي وتغييرات في المواقع، كما أن الشقوق الداخلية التي هي من مخلفات الأنظمة القمعية البعثية هي ذاتها من مشاكل مذهبية طائفية وقومية ودينية، وهذه في سوريا كما كان في العراق تشكل شقوقاً تتسلل من خلالها تلك القوى الخارجية المتربصة لتفجير الوضع وتسخيرها من أجل مصالحها، وهذه المصالح قد تكون عبر جلبها أو محاولة سلبها من منافس عدو او حتى صديق، وينضاف العامل الإسرائيلي في كلا البلدين بما انهما من الدول التي دخلت في حروب مباشرة معها، ويكون العامل الإسرائيلي الاحتلالي اكثر حضورا في سوريا بسبب الجغرافيا ولم تتورع قادتها من القصف كما يشاؤون خلال الأسابيع القليلة الماضية.
هذه العوال الداخلية والخارجية لا تنفصل عن بعضها وهي متداخلة فيما بينها إلى حدّ كبير، لكن هناك قضايا جزئية تتعلق بالجانب الحياتي المباشر تتشكل وتتكاثر بمرور الزمن، هذه المسائل هي التي تعتمد عليها القوى الخارجية “الإقليمية والدولية” كأدوات أو طرق تفجير الوضع الداخلي السوري على المستوى الشعبي، بعض منها أمنية وبعض منها مدنية تتكيء عليها القوى المضادة للثورات تحت عناوين براقة وجذابة مقبولة من المجتمع الغربي.
في ضوء تجربتي في العراق التي عشتها منذ اللحظات الأولى لسقوط النظام البعثي العراقي وما حصل بعدها بمرور الوقت، يمكنني تحديد أدوات الانفجار سواء استخدمت من قوى داخلية أو وظّفتها قوى إقليمية ودولية، لكن القوى الإقليمية هي اكثر من توظف تلك الأدوات كما فعل النظام السوري الساقط في العراق دفعا للشرّ الأمريكي أو ما قد يشكل ظروفا تدفع الشعب السوري للتحرك، ومن اجل منع ذلك لم تتردد القيادة السورية في وقتها ولم تألُ جهدا في تنفيذ التفجيرات وتسهيل دخول المواد والأسلحة والأشخاص إلى العراق، أي أن قوى إقليمية تضررت من التغيير في سوريا قد تكون هي من تقوم بعمليات تخريب لإرباك الحال، ثم تقديم مقترحات لعلاج التدهور على ان يكون هي مشاركة في إعادة ترتيب الوضع وتضمن بذلك موطيء قدم.
الأدوات او قنوات تفجير الوضع السوري هي التالي، ولا تنحصر فيها:
- مهما كان النظام فاسداً ومهما كان قمعياً دموياً فانه كان يتحرك ويعمل من خلال بشر، أناس تكوينهم النفسي والتربوي هو صورة طبق الأصل لنوع النظام، وهم موجودون في كل مكان في المجتمع وفي جميع مؤسسات الدولة، منهم أصحاب الأموال ومنهم أصحاب الأفكار ومنهم حزبيون ومنهم جلادون وغيرهم، هؤلاء من تتكون منهم الدولة العميقة ومن يسمون بالفلول، وهم الصنف الأول الأكثر تضررا من التغيير، ومن ثم هم اول من تستهدفهم الثورة وتستأصلهم، لهذا ونتيجة تكوينهم النفسي الخاص والحياتي العام، يعملون من اجل تفجير الأوضاع ومنع الاستقرار.
- إن الأجهزة الأمنية والمخابراتية التي كانت وسائل التنفيذ بيد السلطة الحاكمة، وفي صفوفها كل المجرمين والقتلة والجلادين والمخبرين، لن يسكتوا ولو على مستوى معين تجاه التغيير المفاجيء في مكانتهم ونوع الحياة التي كانت لديهم وما أصبح لديهم الان، خاصة إذا حرمهم الوضع الجديد من مصادر عيش كانوا يملكونها، أي أن ثقل الحياة المادية والمعيشية والخوف الذي يمتلكهم تحسبا للانتقام يدفعهم إلى ممارسة أعمال العنف على أمل العودة إلى الحال السابق أو لمجرد الانتقام.
- المؤسسة العسكرية “الجيش” وصنف الضباط فيها على وجه الخصوص الذين هم من ثوابت القوات المسلحة وليسوا من الجنود في خدمةً إجبارية، هؤلاء إهمالهم يؤدي بطريقة أوتوماتيكية إلى أعمال عنف داخل شوارع وأزقة المدن الصغيرة والكبيرة، ليس لأنهم أوفياء للنظام الساقط وانما إن صعوبة الحياة وما يعانونه من ضنك العيش بسبب اهمال السلطات الجديدة لهم، هؤلاء عندما يرون عوائلهم تفتقر إلى لقمة عيش كريمة يتحولون إلى قنابل في كل مكان، وشّكل هذا الصنف المادة الأولى للعمليات التفجيرية والاعتداء على المؤسسات المدنية والعسكرية في العراق بعد 2003، رأيت ذلك بعيني أمام بوابة التخطيط للقصر الجمهوري في قلب بغداد على الضفة الشرقية لنهر دجلة، هؤلاء بعد أن دفعت بهم روح الثأر إلى حافة المجتمع ومنعتهم من الراتب الشهري الذي يشكل مصدر رزق عوائلهم أعطوا مهلة ثلاثة أيام لترتيب أوضاعهم والا سيحدث ما يحدث، بعد ذلك حصلت التفجيرات والمواجهات وامتدت وتنوعت.
- الفقر، وانعدام مصدر الرزق خاصة لدى فئة الشباب، هؤلاء عندما لا يجدون من العمل ما يكسبون به من الأموال الكافية ليوميات حياتهم الحديثة، تستغلهم المجموعات المسلحة والكيانات المعادية لتنفيذ أعمال تفجيرية مقابل مبلغ من المال، حصل هذا في العراق، الشباب المرميون في الشارع كان يعرض عليهم وضع العبوات الناسفة تحت العربات العسكرية او المدنية مقابل مئة دولار، أو يُدفع بهم إلى التظاهرات العنيفة في الساحات الرئيسية لأغراض سياسية لا يعرفون عنها شيئاً مقابل القليل من الليرات، ويفعلون ذلك كما حصل في دول أخرى من قبل انصار الثورة المضادة.
- الثورة المضادة، وهذه قد لا تريد العودة إلى النظام السابق وانما التخفيف من التأثيرات الإيجابية للوضع الجديد لكي لا يشكل نموذجا للشعوب الأخرى، وهذه الثورة المضادة التي تقف وراءها دول إقليمية ثم عواصم دولية تستغل الشعارات المدنية والحقوقية والحداثة السياسية والثقافية لإرباك المشهد الجديد، ومن خلال إبراز المخاوف من نظام ديني يأخذ منهم الحريات والحقوق المدنية والاجتماعية، هؤلاء لا يهمهم شيء بقدر إفشال النظام الجديد، الفشل هو غايتهم ثم يختفون.
- وتبقى الطائفية المذهبية والدينية هي الداء الفتاك الذي لا ينتهي، والأنظمة القمعية عملت خلال فترة حكمها على توسيع الهوة بين الأديان والطوائف لكي تستقر هي في تلك الفجوات الاجتماعية الحاصلة، خاصة ان الشعور الديني المعادي إذا تعمقت من الصعب جداً التعامل معها، وقد تستغل قوتان هذا الفيروس من اجل مصالحها، وهي قوى استعمارية وقوى دينيّة متطرفة، عبر التحرش المقصود بالمقدسات وتفجيرها ان استوجب الامر، هذا ما حصل في العراق وهو ما نرى بوادره في سوريا، في حمص ومنبج في حلب واللاذقية.