بكثير من الارتياح استقبلت جمعيات حماية المال العام ومحاربة الفساد التصريحات الأخيرة لمحمد بشير الراشدي، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، التي تضمنت ما عُدته “انتصاراً لحقوق الجمعيات في التبليغ عن الفساد”.
الراشدي كان خلال ندوة تقديم تقرير سنة 2023 لعمل الهيئة التي يرأسها بيّن “وضوح موقف الهيئة من الموضوع، الذي يرتبط بضرورة تحقيق الملاءمة مع الالتزامات الدولية للمملكة، على اعتبار أن المنع يعني التنصل من هذه الاتفاقيات”؛ الأمر الذي أعاد إلى الواجهة الضجة التي أثارتها المادة الثالثة من قانون المسطرة الجنائية قبل أسابيع.
وتقول المادة ذاتها: “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات، أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية، أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”.
ومازالت جمعيات “حماية المال العام” تتمسك بكون المادة، سالفة الإشارة، “تتعارض مع فحوى دستور المملكة والالتزامات الدولية للمملكة في هذا الصدد”، في حين تؤكد أنها “على العموم لا تعتبر المقاربة القضائية وحدها المتوفرة، إذ يمكن الاشتغال انطلاقا من جوانب أخرى”، مع إشارتها إلى أنها “مازالت تشتغل على هذا الملف وتناضل من أجل عدم تمرير ما يعيق عملها من نصوص قانونية”.
“نتمسك بأدوارنا”
محمد المسكاوي، رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام، أكد أن “ما كشفت عنه الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بخصوص حق جمعيات المجتمع المدني في ممارسة وظائفها صلة بمجهودات مكافحة الفساد هو عين الصواب، إذ انتصرت لأدوار المجتمع المدني في مكافحة ظاهرة الفساد بالمغرب، بما يتماشى مع مضامين دستور 2011 وما يفرضه السياق كذلك”.
واعتبر المسكاوي، في تصريح لهسبريس، أن “تصريح وزير العدل في هذا الخصوص قبل مدة لم يكن موفقا ومسؤولا، لكونه حاول تبرير إقصاء الجمعيات من ولوج القضاء بحجة عزوف الأفراد عن الترشح وتحمل المسؤوليات السياسية؛ على اعتبار أن النية في الهروب من المحاسبة هنا أو الانغماس في أعمال الفساد تتضح جليا”.
كما اعتبر المتحدث أن “ما جاء في المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية يتنافى مع اتفاقية دولية لمكافحة الفساد كان المغرب صادق عليها سنة 2007، وهي التي تقول إن المجتمع المدني يبقى شريكا في مجال مكافحة الفساد ووضع الإستراتيجيات والتحسيس والتنبيه والزجر”، وزاد: “هذا الأخير يرتبط أساسا بالتقدم بشكايات إلى النيابة العامة”، مشيرا إلى أن “المغرب بحاجة إلى الجمعيات، خصوصا في هذه الفترة، بعدما اتضح أن الترتيب الذي بلغناه في إدراك الفساد غير مرضٍ، ولاسيما إذا تمعنّا في التنقيط الذي حصلنا عليه”.
ولم يفوت رئيس الشبكة المغربية لحماية المال العام الفرصة دون الإشارة إلى أن “هناك غياب رغبة حقيقية وسياسية لدى الحكومة في مكافحة الفساد”، مردفا: “من الأجدر أن تتم إعادة النظر في الترسانة القانونية والتشريعية، بداية بالقوانين المنظمة للترشح لشغل المناصب”، ومؤكدا أن “التحسيس لم يعد مجديا بخصوص مكافحة الفساد بالمغرب، فالفسادُ الذي يعيق التنمية يحتاج إلى تفعيل آليات الزجر”.
علاقة بالموضوع نفسه قال المسكاوي إن “عددا من الجمعيات في نهاية المطاف تبني شكاياتها أساسا على ما يرد ضمن تقارير كل من المجلس الأعلى للحسابات ومفتشية وزارة الداخلية، في حين أن جلب معطيات عميقة وترتبط بالفساد يظل رهين التوفر على مناضلين يقظين؛ فالقانون في نهاية المطاف يمكن أن يردع أي طرف يتقدم بشكايات كيدية”، موضحا أن “هناك مشكلا آخر يتعلق أساسا بعدم التجاوب مع الشكايات، إذ وضعنا شكايات سابقة لدى القضاء لم يتم التجاوب معها إلى اليوم”.
“الإقصاء لا يخدم البلاد”
في سياق متصل أوضح محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربي لحماية المال العام، أن “توضيحات هيئة النزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كمؤسسة دستورية في هذا الصدد تعتبر مهمة، وقد انتصرت للدستور ولالتزامات المغرب وصورته على المستوى الخارجي، كما دعمت دور المجتمع المدني في سلسلة محاربة الفساد، على اعتبار ان هذه السلسلة تعني الجميع بدون استثناء”.
الغلوسي أكد لهسبريس أنه “ما من اختلاف على أن الفساد معضلة تواجه برامج التنمية، ودور المجتمع المدني هنا دستوري، في وقت حاولت مجموعة من الأصوات تقزيمه، وهي في نهاية المطاف أصوات غير متعقلة؛ بينما هناك أصوات حكيمة عادة لتؤكد على الدور الذي يمكن أن تلعبه الجمعيات في محاربة الفساد”.
وفي سياق متصل كشف المتحدث ذاته أن “كل هذا يحدث في وقت توجد مساع من أجل إغلاق الباب أمام المجتمع المدني في التبليغ عن الخروقات والحالات التي يشتبه في كونها حالات فساد لدى القضاء”، متابعا: “غير أننا نرى، حتى وإن حصل ذلك، أن العمل لا يقتصر على الجانب القضائي والتبليغ فقط، بل هناك مجموعة من الجوانب الأخرى التي يمكن العمل من خلالها”.
ويعتقد الغلوسي أن “هناك من له مصالح في بقاء الأمور على حالها والتوجه نحو التضييق على المجتمع المدني في القيام بأدواره في مكافحة الفساد”، موردا أن “التوازن بين القوى بالمغرب مرغوب لأنه ربما لا مصلحة للبلاد في أن يكون المجتمع المدني بدون وظائف”.