يعد المسجد الأعظم في تارودانت، بحسب نور الدين صادق، الأستاذ الباحث في التاريخ والتراث، أكبر منشأة دينية أسسها السعديون لتخليد عظمة هذه الدولة
أعدها للنشر – عبد المراكشيle12
اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.
بناء على هذه المعطيات، لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.
سنأخذكم، من خلال هذه الفسحة الرمضانية “حكاية مسجد” في جولات عللا بساط من كلمات خطّتها أقلام مغربية مختلفة عن أشهر مساجد المغرب وجوامعه.
تعددت الوظائف والأهداف التي اضطلع بها المسجد الأعظم في تارودانت خلال حقبة زمنية غير قصيرة من القرون الوسطى، حتى أعطى هذا الصرح الحضاري والديني الكبير، وفق ما جاء في مقالة لحسن هرماس، البرهان على الدور المحوري الذي لعبته بعض المساجد في حياة وتاريخ الأمة المغربية.
ويشكل المسجد الأعظم أو “الجامع الكبير”، كما ينعت لدى ساكنة مدينة تارودانت، التي حملت عن جدارة واستحقاق لقب” حاضرة سوس”، بحسب المصدر نفسه، تحفة تعكس النبوغ العربي الإسلامي في مجال الهندسة المعمارية، كما يتجلى ذلك من خلال صومعته التي تنتصب شامخة منذ القرن الـ16 الميلادي، على أقل تقدير، إلى جانب الأقواس والقباب والزخرفة على الجبس والخشب، فضلا عن التصميم البديع للمحراب ولسقف بناية المسجد، وميضأته، وأبوابه وباقي مرافقه الأخرى.
أما من ناحية وظائفه الأخرى الدينية والتربوية والسياسية وغيرها، فقد كان لهذا الصرح الحضاري شأن كبير في حقبة زمنية ماضية، خاصة في عهد حكم الدولة السعدية التي اتخذت من مدينة تارودانت عاصمة ملكها خلال فترة زمنية محددة، حيث عرف المسجد الأعظم أوج إشعاعه الحضاري، واضطلع بدور كبير في تكوين النخب المغربية الذين نبغوا في مجالات علوم الشريعة والفلك والرياضيات والقضاء واللغة والآداب وغيرها.
ويعد المسجد الأعظم في تارودانت، بحسب نور الدين صادق، الأستاذ الباحث في التاريخ والتراث، أكبر منشأة دينية أسسها السعديون لتخليد عظمة هذه الدولة، إذ كان هذا الصرح خلال القرن الـ16 وحتى القرن الـ18 يستقبل العلماء والطلبة ليس من ربوع القطر السوسي فحسب، بل من مختلف ربوع المغرب، وكذا من تلمسان ومن بلاد السودان. وكان السلاطين السعديون والعلويون يحبسون على مكتبة هذا المسجد/ الأكاديمية نفائس الكتب في مختلف مجالات العلوم والثقافة والمعرفة.
ووفق صادق دائما، فإن تأسيس المسجد الأعظم، وفقا لما تشير إليه القرائن التاريخية، يعود إلى فترة ما قبل نفوذ الدولة السعدية، إذ تشير هذه القرائن إلى إمكانية تأسيسه في عهد الدولة الموحدية، استنادا إلى نمط الهندسة المعمارية لصومعة المسجد، وكذا لبعض الإشارات الواردة في الحوالات الحبوسية .
وقد أكد هذا الطرحَ المؤرخ العلامة الراحل محمد المختار السوسي الذي تحدث عن المسجد الأعظم في الجزء الرابع من مؤلفه المعروف “خلال جزولة” حيث قال إن “الجامع الكبير العتيق، وهو قديم إنما جدده محمد الشيخ، إذ أعاد العمارة إلى هذه المدينة في القرن العاشر، وهو كبير وعليه طلاوة. ويبدو أن تاريخ بناءه يعود إلى عهد الدولة الموحدية. ويؤيد ذلك شكل صومعته المربعة القاعدة، وانسجام نسبة طول قاعدتها 5,50 متر إلى ارتفاعها 27 مترا، مع المبدأ الموحدي في التناسب، وانحراف قبلته إلى الجنوب“.
وتعدد كتب التاريخ الدور الإشعاعي والطلائعي الذي اضطلع به المسجد الأعظم بتارودانت في ما مضى، إذ كان علاوة عما سبقت الإشارة إليه، بمثابة “مؤسسة تشريعية” لسنّ القوانين وتنظيم شؤون المعاملات، وبورصة لعقد الصفقات. كما كان بمثابة “أكاديمية عسكرية” لشحذ همم المجاهدين وتعبئتهم لمواجهة الغزاة المحتلين للثغور الشاطئية المغربية. وفوق منبر المسجد الأعظم، كانت تقرأ الظهائر السلطانية؛ وبين منبره ومحرابه تؤخذ البيعة ويعقد الصلح.
وتفيد مصادر تاريخية متعددة أن هذا “الجامع الكبير” خضع عبر التاريخ لعمليات توسيع وترميم عديدة أجريت أكبرها في عهد السعديين والعلويين، حيث جدد السلطان محمد الشيخ السعدي الجامع ووسعه على النمط الذي هو عليه الآن. وفي بداية عهد الدولة العلوية خضع الجامع لإصلاحات وترميمات عديدة في سنة 1660 م، حين أضاف إليه السلطان المولى الرشيد ثلاث قباب. أما في عهد السلطان مولاي يوسف فقد تم ترميم بعض سقوفه المتداعية للسقوط على يد بنائين ومزخرفين مهرة استقدموا من فاس ومراكش.
وفي مارس 1945، تفقد بناية المسجد الأعظم بتارودانت جلالة المغفور له محمد الخامس، فأصدر أمره لإدارة الأحباس بالعمل فورا على إنقاذ هذه المعلمة الدينية التي كانت وقتئذ على حالة من التدهور. تلتها زيارة أخرى لأب الأمة خلال سنة 1959 بمناسبة وضع جلالته طيب الله ثراه الحجر الأساس لبناء معهد محمد الخامس للتعليم الأصيل بتارودانت، حيث أدى فيه جلالته صلاة الجمعة التي ألقى خطبتها العلامة الراحل سيدي محمد المختار السوسي.
وكانت آخر عملية ترميم وإصلاح خضع لها المسجد الأعظم بتارودانت قد تمت ابتداء من أبريل 2002، حيث رصد لها غلاف مالي من ميزانية وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية قدره 2 .7 ملايين درهم، إذ روعي في عملية الترميم الحفاظ على الطراز الأصلي للمسجد، سواء في ما يتعلق بالعمارة، أو النقوش والزخارف التي تزين السقوف والجدران والأبواب والصومعة .
وسيرا على نهج سلاطين وملوك الدولة العلوية في العناية والاهتمام ببيوت الله، ترأس أمير المؤمنين، جلالة الملك محمد السادس يوم 30 أكتوبر 2005 حفلا دينيا كبيرا بالمسجد الأعظم بتارودانت، إحياء لليلة القدر المباركة.
وبتاريخ 7 ماي 2013، اندلع حريق مهول في المسجد الأعظم بتارودانت، إذ أتى الحريق على الجامع بكامله. وبمجرد ما بلغ أمر هذا الحادث المؤسف إلى علم أمير المؤمنين، أعطى جلالته أمره المطاع إلى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بأن يعاد بناء المسجد الأعظم بتارودانت مع الاحترام الدقيق للمعمار التاريخي للمسجد، كما تكرم أمير المؤمنين بأن تكون تكاليف إعادة البناء من ماله الخاص.
وقد أتاحت هذه الالتفاتة المولوية الفرصة للمسجد الأعظم في تارودانت لاستعادة رونقه المعماري البهيج، كما استعادت هذه المعلمة الدينية التاريخية بعضا من وظائفها، لاسيما منها المرتبطة بجانب العبادات إذ تقام في المسجد، الذي يتسع لأربعة آلاف مصل، الصلوات الخمس، فضلا عن احتضان ربوعه لمجالس الوعظ والإرشاد التي يشرف عليها المجلس العلمي المحلي، إلى جانب إحياء المناسبات الدينية المختلفة على امتداد شهور السنة.