توجد حديقة للزهور بألوانها الزاهية من الجهة الغربية والجنوبية من مسجد الكتبية في المغرب، وهي تضفي لمسة ساحرة على المكان، وعلى مقربة منها يوجد متحف يوسف بن تاشفين، المُؤسّس العظيم لمدينة مراكش، الذي يحتفظ بضريح بسيط يُكرّم ذكراه.
إعداد -عبد الرزاق المراكشي le12.ma
اشتهر المغرب بكونه يتوفر على عدد كبير جدا من المساجد، حتى لَتجد من ينتقذون هذه الوفرة “الملحوظة” لـ”بيوت الله” على حساب مرافق حيوية أخرى ضرورية لحياة المواطن البسيط، مثل المدارس والمستشفيات والمصانع.
بناء على هذه المعطيات لا تكاد تخلو أية قرية نائية أو مدشر موغل في أعماق “المغرب غير النافع” من مساجدَ يُذكر فيها اسم الله، فما بالك بمُدن المركز وباقي الحواضر الكبرى في بلاد الـ مسجد.
سنأخذكم، من خلال هذه الفسحة الرمضانية “حكاية مسجد” في جولات عللا بساط من كلمات خطّتها أقلام مغربية مختلفة عن أشهر مساجد المغرب وجوامعه.
الحلقة الأولى- مسجد الكتبية
يعدّ مسجد الكتبية أحدَ أبرز الآثار والمعالم في تاريخ المغرب ككل ومراكش على وجه الخصوص.
إنه واحد من الشواهد العظمى التي خلّفتها الدولة الموحدية للتذكير بقوتها وتقدمها. تجسد هذه التحفة المعمارية فخامة ورقي البنيان في عهد هذه السلالة الحاكمة التي عُرفت بتشييد صروح تاريخية عظيمة ومتقنة التصميم والهندسة قل نظيرها في المنطقة ككل. بني الجامع على مراحل تاريخية وعاصر بناؤه ثلاث سلاطين من الاسرة الموحدية.
هو إحدى الشقيقات الثلاث او روائع الهندسة المعمارية في التاريخ الاسلامي: الكتبية في مراكش وحسان في الرباط والخيرالدا في إشبيلية.
بُني مسجد الكتبية في القرن الثاني عشر الميلادي، ويعدّ، بحسب ما أورد موقع “الجزيرة نت”، أحد أهم المعالم الدينية والثقافية في مراكش بشكل خاص، وفي المغرب بشكل عام، ويتميز بتصميمه الرائع، خاصة لمسة المعمار الأندلسي الجميل، ويعد مثالا للفن والتاريخ الغني للمنطقة.
فبفضل موقعه الإستراتيجي، كان المسجد مركزا حيويا في الحياة الاجتماعية والثقافية لمراكش ولعب دورا مُهمّا خلال فترات الاحتلال الفرنسي للمغرب في تطوير البنية التحتية للمدينة وربط شبكة الطرق.
وتمتاز قباب المسجد بزخارفها الرائعة والنقوش الجميلة التي تعكس الفن الإسلامي التقليدي، وتضفي جمالا على هذا الصرح الديني العظيم، بالإضافة إلى دوره الديني، يعدّ مسجد الكتبية معلمة ثقافية وتاريخية يستقطب الزوار من مختلف أنحاء العالم لاستكشاف جماله وتاريخه.
وتوجد حديقة للزهور بألوانها الزاهية من الجهة الغربية والجنوبية من المسجد، وهي تضفي لمسة ساحرة على المكان، وعلى مقربة منها يوجد متحف يوسف بن تاشفين، المُؤسّس العظيم لمدينة مراكش، الذي يحتفظ بضريح بسيط يُكرّم ذكراه.
وقد أجمعت المصادر التاريخية والأبحاث الأثرية، بحسب المصدر نفسه، حول تسمية جامع الكتبية إلى وجود عدة تفسيرات، ومن بينها أن الجامع كان محاطا بدكاكين للكتبيين، وقد تم اكتشاف حي الدكاكين الموجود مقابل واجهة المسجد الشرقية، حيث كانت تمتد دكاكين الكتبيين على قارعة الطريق تحت سقيفة المسجد، وأكد الحسن الوزان صاحب كتاب (ليون الافريقي) هذا الأمر بوضوح، مشيرا إلى وجود ما يقرب من مائة دكان للكتبيين تحت رواق المسجد، وعلى الرغم من اختفاءها اليوم، إلا أن آثارها تظل حاضرة، حيث كانت تجري في الماضي عمليات بيع الكتب الهامة في هذه المنطقة، وكانت تعتبر مركزا حيويا للتبادل الثقافي والعلمي في المدينة، والاسم نسبة إلى الكتبيين، وهم باعة الكتب.
كان الموحدون هم من شيّدوا مسجد الكتبية. فبعد وفاة زعيم المرابطين، علي بن يوسف، في 1147 م، سيطر الموحدون على مدينة مراكش. وكانت سياسة الموحدون تتمثل في إزالة الآثار الدينية التي خلفها العهد المرابطي السابق، بسبب العداء الشديد بينهما، ولذا، إذ ذهب قادة الموحدين إلى أن تصرفات المرابطين خارجة عن الدين، وهكذا بدأ الخليفة عبد المؤمن بن علي الكومي ببناء مسجد الكتبية في الربع الجنوبي الغربي من المدينة، على أرض القصر السابق الذي كان مسكنا لعلي بن يوسف المرابطي.
يتألف جامع الكتبية من مسجدين متطابقين وصومعة واحدة، حيث تم بناء المسجد الأول عام 1147م على أنقاض قصر الحجر المرابطي، كأول مسجد أقامه الموحدون، وفي عام 1158م، تم إنشاء المسجد الثاني، اتفق جميع المؤرخون على أن عبد المؤمن، بعد إكماله بناء الجامع، نقل إليه منبرا صنع بإتقان في الأندلس، حيث كانت قطعه مصنوعة من عود الصندل باللونين الأحمر والأصفر، مع صفائح من الذهب والفضة، وبلغ طول المنبر 3.46 أمتار، وعرضه 0.87 متر، وارتفاعه 3.86 أمتار.
وفي عهد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور، تم إعادة بناء المسجد بعد اكتشاف أن محرابه كان منحرفا عن اتجاه القبلة الأصلي في مكة المكرمة، وتمت إضافة 50 ذراعا من كل جهة، وتزيين المسجد بأعمدة استوردت من الأندلس، كما تم إنشاء خزان ماء تحت المسجد، وتغطية الجامع بسقف من الرصاص، وقد شهد المسجد تغييرات متعددة حتى نهاية القرن الثاني عشر.
كان المسجد الثاني مطابقا للأول في التصميم والأبعاد والمواد المستخدمة، باستثناء الاتجاه، وعلى الرغم من أن التصميم المعماري والنقوش كانت متطابقة، فإن المسجد الجديد كان مائلا بعشر درجات بدلا من خمس درجات كما كان في المسجد الأصلي، مما جعل الانحراف يقل إلى نصفه. كما شهدت بناية المسجد عدة عمليات إصلاح وترميم، أحدثها كانت في عام 2023 بعد التضرر الناجم عن زلزال الحوز الذي ضرب المغرب، حيث تمت عمليات الإصلاح بواسطة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كما خضع للترميم من قبل وزارة الثقافة عام 1990.
وفي 2016، تم تجهيز المسجد بألواح شمسية وسخّانات مياه تعمل بالطاقة الشمسية، ضمن جهود الاعتماد على الطاقة المتجددة. وتم تشييد المسجد بشكل أساسي من الحجر الأحمر، ويمتدّ عرضه 80 مترا نحو الشرق و60 مترا نحو الغرب، إذ بني على مساحة 5 ’لاف و300 متر مربع، إذ اعتمد تصميمه على شكل قريب من المستطيل مع تشكيله على شكل حرف “تي”، وهو الشكل الذي كان مرغوبا في فترة الموحدين، تم تزين الجامع بـ 11 قبة مصنوعة من خشب العرعار، وتعتبر هذه القباب جزءا مميزا من العمارة الإسلامية التقليدية.
توجد في المسجد مئذنة واحدة بطول 77 مترا، وكانت تاريخيا المكان الذي تعلن منه القرارات الهامة على الناس، خاصة القرارات السياسية الكبرى، كما تعد ساحة المسجد مكانا للاجتماعات التاريخية وتوقيع الاتفاقيات المهمة.
ويبلغ عرض الصومعة عند القاعدة 12 مترا و80 سنتيمترا، بينما يصل طول الجامور الذي يحمل التفاحات الثلاث إلى 7 أمتار و80 سنتيمترا، في حين يبلغ قطر التفاحة مترين، وتضم الصومعة 7 غرف داخلية، مصممة بأناقة فائقة في الهندسة والزخرفة.
يتألف بيت الصلاة في المسجد من 17 بلاطا، ينتهي كل منها عند بلاط مستعرض يمتد بمحاذاة القبلة. تتميز البلاطات الـ16 الأخرى بتناغمها وتشابهها من حيث العرض، بينما يتميز البلاط الأوسط بعرض أكبر، ويحده ركنان صليبيان وتغطيه أسقف هرمية. ويضم المسجد 7 أساكيب، ويمتد بيت الصلاة من الشرق إلى الغرب بدون انقطاع بين الصحن والقبلة، مغطيا مساحة تقارب 3 آلاف متر مربع، وللمسجد 8 أبواب جانبية مفتوحة على حائطي الشمال الشرقي والجنوب الغربي، والتي تتقابل لتوفير مداخل متعددة للمصلين للوصول إلى بيت الصلاة بسهولة.
وقد حظي جامع الكتبية، بحسب المصدر ذاته، باهتمام بالغ وكبير من الباحثين والدارسين، إذ أنجز الباحثان الفرنسيان هنري باصي وهنري تراسبدراسة معمارية وتاريخية للمسجدين في 1923، وفي 1947، ركز الباحثان على الحفريات لاكتشاف آثار العصر الموحدي، ما أدى إلى اكتشاف بنايات قديمة لحصن يوسف بن تاشفين، يتألف من مسجد وقصبة صغيرة وبقايا قصر علي بن يوسف.
لقد استحوذ الجامع الأول على اهتمام كبير من الباحثين مثل جاك مونيي وهنري تراس بمساعدة غاستون دوفردان، وكانت جهودهم موضوع كتاب بعنوان “الأبحاث الأركولوجية بمراكش”، وفي عام 1983م، أصدرت منظمة اليونسكو تقريرا يحتوي على نتائج الدراسة. وصُنّف المسجد من قبل اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي في 1920 م، ووصف الرحالة الشهير ابن بطوطة المسجد بأنه لا مثيل له في العالم الإسلامي، كما وصف مدينة مراكش بأنها تحتوي على “مساجد ضخمة، مثل مسجد الكتبية العظيم، وصومعة هائلة غريبة”.
إن مسجد الكتبية بروعة هندسته المعمارية، وعراقة تاريخه الذي يعود للعهد الموحدي، هو أحد المعالم التاريخية التي تظلّ شاهدة أن المغرب هو تاريخ حضارات وامبراطوريات تركت بصمة خاصة في التاريخ العالمي.