حكايات رمضانية مع طاكسي مراكش. الصّرف (الحلقة السابعة)
في رحلة طاكسي مراكش، لم يُجب السائق الزبونة، فقط أخرج بعض الأوراق المالية من جيب سترته الباهتة وراح يبحث بينها عن “الصرف” ديال المائة درهم التي دفعتها له.
مراكش– عبدو المراكشي le12
ظاهرة لافتة من الظواهر الشاذة التي تطبع هذه مدينة مراكش: التسوّل..
وأنا في “القواس بعد العصر”، تخ في طريقي إلى البيت حيث أستريح قليلا (وربما غفوت أحيانا، ولو “بعد العصر”) في انتظار أن يؤذن المؤذن، رمقت شابا من ذوي الاحتياجات “ملقى”أرضا في وضعية استجداء للمارة، الذين لم يهتمّ كثيرون لحاله ولا لوضعه..
بعد الإفطار، وأنا في طريقي إلى البحث عن “طاكسي” هذه الرحلة، وجدته في المكان نفسه.. كان هناك رجل مُنحنٍ عليه يكلّمه. لفت الموقف انتباهي واستنفر حواسي الفضولية.
توقّفت ثم اقتربت.. فهمتُ من الرجل أن الشاب قد”تركته” عائلته وذهبت إلى أكادير، “مُتخلصة” منه بذلك، فلم يجد بدّا من “امتهان” هذه “الحرفة”..
فهمتُ من الرجل أيضا (وكان برفقة بنت له صغيرة) أنّ هذا الشاب المريض والعاجز عن الوقوف على رجليه اعتاد “التسول” في محيط مسجد الكتبية، قبل أن تُشنّ عليه وعلى “زملائه” حملة من السلطات المعنية، فتشتّتوا في أرض مراكش الواسعة، ووجد هو نفسه هنا في “القواس”.
-دعك من قصص وحكايا التسول والمتسولين، فهي كثيرة وهم كثير.. الله يْعفو على الجميع ويْرزقنا العفاف والكفاف والغنى عن الناس..
لفظني “القوسان” اللذان يشكّلان هذا المنفذ المسمّى “القواسْ” فإذا بي في الشارع الصّاخب الكبير (طريق مزدوج) الذي لا تكاد تتوقف فيه حركة السير بالنهار كما بالليل. وحثثتُ خطوي في اتجاه الهياكل الحديدية الصفراء الرابضة غير بعيد، في جزء من هذا “الخلاء” الممتدّ المسمّى “قارّة” المحاميد.
في المقعد الأمامي شاب إفريقي في مكالمة مُطوّلة … في الحال شدّتني لكنته الغريبة، مثل معظم إخواننا هؤلاء، الذين يبدو أنهم صاروا “منّا” ما دام الكثيرون منهم قد تخلّوا عن فكرة “العبور” وعوّضوها بـ”المُقام” بيننا، كأننا… حْنا زعما مْطفّرينو فهاد البْلاد باش يْتّزاد علينا البرّاني!
في المقعدين أمامي شابّتان (يبدو أنهما أختان) تتناقشان بحدة إثر دفعهما “الصرف” للسائق، الذي سألته إحداهما (الأصغر):
-الشريف، عندك الصرف؟…
(…)
لم يُجبها، فقط أخرج بعض الأوراق المالية من جيب سترته الباهتة وراح يبحث بينها عن “صرف” المائة درهم التي دفعتها له.
فهمت مما دار بعد ذلك من حديث بين الشّقيقتين المفترضتين أن الأمر شأن عائلي حول “المصروف”..
-عندي الصّرف؟.. واش كتْضحكي عليّ ولا كيفاش؟.. ياك داكشي اللي عندي صرفتو.. ونزيدك داكشي اللي تْقضّيت أنا غير اللي كيتسناك انت تتقضّايه..
أنا هاد المرة تقضّيت غير الحوايج البْساط، انتِ اللي غادي تتكلّفي هاد المْرّة بداكشي الثقيلْ.. إيوا باراكا ما تضحكي عليّ، عافاك..
-أويلي، راه هير بيتْ نضحك معك..
-لا، ڭولي نيتْ كتضحكي عليّ بهاد الهضرة ديال والو…
الأخرى تُشيح عنها بوجهها مستسلمة للأمر الواقع الذي يبدو أن مُخاطبتها (وقد فهمتُ كما فهم جميع الركاب) أنها أختها الكبرى…
في خضمّ ذلك، وطوال مدة الرحلة تواصلت مكالمة صاحبنا الإفريقي مع شخص آخر يُسمع صوته أيضا بوضوح من الطرف الآخر… والطريف في هذه المكالمة أنّني شخصيا لم أفهم منها ولو كلمة واحدة لكنْ رغم ذلك تابعتها باهتمام كموسيقى تصويرية لما أنا بصدد تسجيله من رؤوس أقلام لوقائع هذه الرحلة الرمضانية المباشرة، التي دامت أزيد من عشر دقائق لم يتوقف فيها صاحبنا عن الكلام أبدا…
قدرة بعض الأشخاص على مواصلة الكلام فتراتٍ طويلةً يصيبني بالاستغراب والدهشة.. ماذا يمكن أن يقوله شخص لآخر في مدة عشر دقائق كاملة أو أكثر؟ .
شخصيا، حين أكمل دقيقتين أو ثلاثا في إحدى المكالمات “المُهمّة” أشعر وكأنني قد سجّلتُ رقما قياسيا في الكلام…