أكد عبد العالي حامي الدين، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس، أن الجامعات المغربية تعاني من أزمة تبعية أكاديمية مرتبطة بطبيعة نشأة القانون المغربي، داعياً إلى مراجعة الأصول النظرية لعلم القانون وتجديد مناهج دراسته، وتعريب العلوم باعتبارها شرطا للنهضة.
أزمة التبعية
وأشار حامي الدين إلى أن تدريس القانون في الجامعات المغربية يعاني من تبعية أكاديمية للأوروبيين، حيث تم نقل مناهج ومقررات ووسائل تدريس القانون من الجامعات الأوروبية، وخاصة الفرنسية، إلى الجامعات المغربية دون مراعاة للخصوصية الثقافية والاجتماعية للمجتمع المغربي.
وقال بهذا الخصوص: “لقد انتقل علم القانون في الغرب بمناهجه ومقرراته ووسائله، وحتى أساتذته، من الجامعات الأوروبية إلى الجامعات العربية بشكل عام ومنها الجامعة المغربية، فكليات القانون ومناهج تدريسها كانت امتداداً للمقررات الفرنسية أساساً”.
وأضاف في محاضرة له، ضمن ندوة نظمتها مؤسسة محمد عابد الجابري بالرباط، تحت عنوان “الدين والقانون والمجتمع”، أن هذه التبعية أدت إلى استبعاد التراث الفقهي الإسلامي من المناهج الجامعية، حيث تم توظيفه بشكل ضيق في نطاق الأحوال الشخصية فقط، بينما تم إهمال علوم مثل أصول الفقه التي كانت تدرس في الجامعة المغربية قبل أن يتم التراجع عنها.
وأكد أن هذا الإهمال أدى إلى فجوة كبيرة بين الشرعيين والقانونيين في الجامعات المغربية، سواء من حيث مصدر التعلم والمرجعية، أو من حيث الموازنة بين العلوم القانونية وعلوم الشريعة.
ودعا حامي الدين، متسلحا بتجربة 22 سنة من التدريس الجامعي، إلى تجديد مناهج تدريس القانون والعلوم الاجتماعية في الجامعات المغربية، معتبراً أن هذا التجديد يجب أن يستند إلى استثمار المخزون التاريخي للتراث والفقه الإسلامي.
وقال في هذا الصدد: “نحن بحاجة إلى سياسة عامة لتوطين المعرفة العلمية في مجال العلوم القانونية والاجتماعية، كما أن الاهتمام بالصناعة والتكنولوجيا لا ينبغي أن يتم بمنطق نقل العلم واستيراد التقنيات، بل يجب الأخذ بمنطق التملك والتوطين للعلم عوض منطق الاتكال”.
وأكد أن الفقه الإسلامي يمتلك قدرة لامتناهية على التجدد والإبداع النظري، مشيراً إلى أن القواعد الكلية المنهجية في الفقه الإسلامي، مثل قواعد النسخ والإجماع وقياس الفرع على الأصل، يمكن أن تسهم في تطوير المناهج التفسيرية للمادة القانونية، موضحا أن “الدعوة إلى أصول الفقه ليس المقصود بها التحول إلى عقلية ماضوية غارقة في زمن مضى، بل نعني الاستفادة من عناصر الماضي العقلانية ومنجزاته المعرفية؛ لتأسيس معرفة معاصرة وإنتاجها”.
وانطلاقا من مضامين كتاب دفاع عن الشريعة للزعيم الوطني الراحل، علال الفاسي، تطرق حامي الدين إلى نشأة القانون المغربي بعد الاستقلال، مشيراً إلى أن الحكومة المغربية الأولى قامت بتأسيس لجنة لتدوين الفقه الإسلامي استعداداً لجعله القانون الرسمي للدولة. مقتبسا عن الفاسي قوله: “بمجرد ما أعلن الاستقلال وتكونت الحكومة الأولى، أصدر جلالة المرحوم محمد الخامس أمره بتأسيس لجنة لتدوين الفقه الإسلامي استعداداً لجعله القانون الرسمي للدولة في جميع المحاكم التي أخذت تسير في طريق التوحيد”.
ولكنه أشار إلى أن هذه الجهود، وفق ما أورده الفاسي، توقفت بسبب تدخل الفنيين الفرنسيين في قسم التشريع بالكتابة العامة، مما أدى إلى إيقاف عملية التدوين في بقية أبواب الفقه الأخرى، حيث قال الفاسي “لم يكن يخطر ببال جلالته ولا ببالنا نحن أعضاء لجنة التدوين الذين شرفهم جلالته بتعيينهم لأداء هذه المهمة أن عملنا سيقتصر على مجرد الأحوال الشخصية”.
الهوية والاغتراب
وأكد حامي الدين أن التبعية الأكاديمية للمركزية الأوروبية أدت إلى أزمة هوية واغتراب في الدراسات القانونية والاجتماعية العربية بشكل عام والمغربية بشكل خاص، قائلا “إن هذا التوصيف لمناهج دراسة القانون سينعكس على وظيفة القانون نفسه.
وأبرز أن “القانون الذي كان ينبغي أن يكون محصلة اجتهاد فقهي لتحقيق سعادة المجتمع والبحث في طرق تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، أصبح أداة لإخضاع المجتمع، بل أصبح أكبر وسيلة استبدادية جاءت إليها الدولة الحديثة لإخضاع المجتمع وتسويغ قراراتها القمعية”.
وأضاف أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية، أن “القانون في المجتمعات الحديثة تحول إلى أداة لتبرير أوامر السلطة وممارساتها، حيث تم اختزال فكرة القانون في تبرير طاعة الأفراد للسلطة، بوصفها الضمانة الوحيدة للنظام الاجتماعي. وقال: “تحولت العلاقة بين العلم والسلطة إلى عائق أساسي أمام استقلال المؤسسة العلمية والمجتمع العلمي”.
وشدد المتحدث على ضرورة توطين المناهج العلمية في مجال العلوم القانونية والاجتماعية، معتبراً أن هذا التوطين يجب أن يعتمد على إبراز الخصوصية الثقافية للمجتمع المغربي، موضحا “أن عملية التوطين المنهجي تتوقف على أمرين، إبراز الخصوصية الثقافية، وذلك من خلال آليتين: أولاهما التعريب الصحيح الجيد للعلوم، وثانياً، تطوير النماذج المعرفية للعلوم العربية الأصيلة التي استُخدمت في فهم الحياة وتفسيرها، بأبعادها المختلفة، وأهمها، بلا شك، علم أصول الفقه”.
وأكد أن توطين المناهج العلمية لا يعني قطع الصلات بالمعرفة الغربية، بل الدخول في عمليات مثاقفة حضارية حقيقية، تجمع بين الفهم والاستيعاب، وبين النقد والتجاوز والتتميم، مشيرا أن “الدعوة إلى توطين المناهج العلمية، لا نقصد بها قطع كل الصلات بالمعرفة الغربية، فهذا مما لا يُقبل أو يُعقل في مسار العلوم وحركتها، لكن نعني الدخول في عمليات مثاقفة حضارية حقيقية، تجمع بين الفهم والاستيعاب، وبين النقد والتجاوز والتتميم”.
ويذهب حامي الدين إلى أن تجديد مناهج تدريس القانون والعلوم الاجتماعية في الجامعات المغربية يجب أن يعتمد على استثمار التراث الفقهي الإسلامي وتطويره بما يتناسب مع متطلبات العصر، داعيا إلى تبني سياسة عامة لتوطين المعرفة العلمية في مجال العلوم القانونية والاجتماعية، معتبراً أن هذا التوطين هو تحدي حضاري كبير لا مناص منه.
وأضاف، “إن تملّك الحاضر لا يمكن أن يحدث من دون تملّك الماضي، ماضي العلم، ولا سيما في الحضارة العربية الإسلامية بلغته وفلسفته وأسسه المنهجية أيضاً”.