جريمة مؤنثة… عجوز قتلت ابنتها وادعت انتحارها
رضا حمد الله
تعب من الحرث وانتظار وصول زوجته كما اعتاد في كل ظهيرة تطل عليه فيها بما أعدت من وجبة غذائه. انتصف النهار ولم تأتي، والجوع تمكن منه كما بهيمتيه وسيلته لحرث أرضه بمحراث خشبي. توقف عن العمل لأخذ قسط من الراحة ولإطعامهما شعيرا. وانزوى في ظل شجرة زيتون وارفة، متكئا على جدعها اتخذه مخدة ورجلاه ممددتين إلى أسفل وعيناه عن البهيمتين.
أغمض عينيه ووضع يده اليسرى على جبهته والثانية مدها مستوية على جانبه الأيمن، كما لو كان سينام متخذا الأرض سريرا. شرد طويلا والحيرة تسيطر عليه وتساؤلات تحاصره.
– لماذا تأخرت، ايكون طارئ طرأ أو أنها فقط تأخرت في إعداد غذائه من بسيط الطعام؟.
كل الأسئلة لم يجد لها جوابا، فقد تكون للغائب حجة، والحجة تمناها خيرا فلم يعد له متسع للنكبات. أبوه العزيز توفي قبل أيام وزوجته أجهضت، ولا استعداد له ليحزن من جديد.
الشمس حارة ونسيم ريح يهب خفيفا وهو في وضع أريح من تعب الحرث. المتعب لا يختار أين ينام بقدر حلمه بغفوة تريح ذاته. مرت ربع ساعة تقريبا وعلى ذاك الحال قبل أن يغلبه النوم في يقظته. ولم يستفق إلا على رنة هاتفه البسيط الذي يحتفظ به رغم اكتساح الذكي من الهواتف للسوق وجيوب شباب قريته ممن يتباهون بحيازة أغلى وأذكى الهواتف ولو عاشوا البؤس والفقر والحاجة والحرمان.
– إنها هي
قالها بعدما تيقن من رقم المتصل وتأكد أنه هاتف زوجته، قبل أن يجيب.
– ألو أين تأخرت؟
– هيا ولدي بسرعة زوجتك بين الحياة والموت. بنتي فلذة كبدي تموت.
إنه ليس صوتها. هو صوت حماته التي كانت تناديه دوما بولدي لمعزته عندها واحترامه لها. أقفل الخط ونهض بسرعة. لم يصدق ما سمعه وحاصرته الأسئلة باحثا عن سبب مستساغ ومعقول يبرر به ما حل بزوجته. اسرع مهرولا في اتجاه منزله البعيد بكيلومترين عن الفدان. وفي الطريق كان يصيح مستنجدا بأبناء الدوار. جميعهم تركوا بهائمهم في الفدادين وحيدة ورافقوه او لحقوا بها لمعرفة ما وقع ولمساعدته، فالتضامن عنوان لا يفنى لدى أهالي القرية مهما غزاها معالم التمدن والتحضر.
حين وصولهم كانت الزوجة وسط بركة دم وسط فناء ذاك المنزل القروي. على عنقها جرح عميق، نحرت كما تنحر الأضحية، فمن يكون ناحرها؟. كانت وحيدة في البيت مع أمها السبعينية. لا أحد كان معهما، حتى أبناؤها الثلاثة كانوا في المدرسة ولم يعودوا بعد. علت الصراخ وتحركت الهواتف وأخبر عون السلطة وانتشر الخبر سريعا بين الناس وتجمعوا لمؤازرة هذا الفلاح المحبوب ومساعدته ولمعرفة من قتلها.
كانت أمها المسنة تبكي بحرقة على مرمى حجر من جثة ابنتها. عانقها الزوج مواسيا وسائلا. كانت ساعات قليلة مرت على حلولها بين ظهرانيهما قبل أيام معدودات من حلول عيد الأضحى. كانت تسكن وحيدة بمنزلها الطيني بقرية مجاورة، استقرت بها بعد وفاة زوجها واستقرار أبنائها مع زوجاتهم وبناتهم مع أزواجهن. في تلك الأيام زارت ابنتها لإحياء صلة الرحم ولمساعدته في إعداد حلويات العيد. ذاك ما اعتادت عليه الأسرة منذ سنين ولم تفرط فيه أبدا.
– ولدي لقد ذبحت نفسها. كنت في الغرفة، لم أنتبه. سمعت صراخها ولما خرجت لفناء المنزل وجدتها مضرجة في دمها. إجهاضها سبب. مسكينة.
عبارات نطقتها بشكل متقطع وهي تحكي لزوج ابنتها ما وقع. رواية لم يصدقها ولا من سمعها من أبناء ونساء الدوار الذين تجمعوا في انتظار وصول الدرك وسبارة نقل الأموات.
– كيف لها أن تذبح نفسها وتحدث جرحا عميقا بهذا الحجم؟، غير معقول، شيء لا يصدق.
فرضية انتحار الزوجة لم يصدقها أحد. وامها كانت تحمل جرحا في يدها اليمنى، بررته بإصابته أثناء نزع السكين من عنقها. حتى هذا التبرير لم يقنع من سمعه.
– أتكون هذه العجوز السبعينية قتلت ابنتها وتفتعل الروايات؟
سؤال مشروع وشكوك مرجحة، فحالة الهالكة وجرح أمها، لا يفسر إلا بذلك.
مرت الدقائق ثقيلة قبل وصول عناصر الدرك وسيارة نقل الأموات. الطريق إلى القرية متربة وصعبة الولوج.
عناصر الدرك انكبوا على تمشيط محيط الجثة وتصويرها ومساؤلة العجوز التي تشبثت بنفس الرواية. قالت بانتحار ابنتها وأبعدت عن نفسها الشبهة، ولو أن ما روته لم يقنع المحققين، فذاك سيء لا يتقبله عقل. أن تذبح نفسها وبذاك الجرح أو أن تصاب الأم لما استلت السكين، فهذه الأداة مفروض أن تمسكها من مقبضها وليس من الجهة الحادة.
نقلت الجثة لمستودع الأموات للتشريح واقتيدت العجوز لسرية الدرك للبحث معها. وظلت متمسكة بإنكارها. لكن يقظة وذكاء المحققين، سيجهض محاولتها التستر على ما وقع لابنتها. ركزوا على متناقضات أجوبتها ودققوا في أسئلتهم واستنطاقهم لها على جزئيات شكلت خيطا رفيعا للوصول للحقيقة. التحقيق طال ساعات دون راحة ولا نوم، والإجهاد تمكن من العجوز التي سرعان ما اعترفت تلقائيا بقتلها ابنتها بعدما باغثتها وهي جالسة بصدد تنقية القمح لطحنه في الرحى التقليدية. نحرتها من الخلف بعدما أمسكت بشعرها، بعد خلاف بسيط ولعدم استساغتها عتاب ابنتها على قبولها صدقة من جار لها.
طويت الساعات تباعا وأودعت العجوز في السجن وانطلقت التحقيق معها وأحيلت على غرفة الجنايات والتمس دفاعها إجراء خبرة طب نفسية عليها كانت المنقذ لها من قضاء عقوبة أطول من شهور ذاقت فيها برودة الزنزانة. لقد أكد الطبيب المكلف بالخبرة، أنها كانت منعدمة المسؤولية وقت ارتكاب الجريمة بسبب مرضها النفسي. والمحكمة أمرت بإيداعها مستشفى الأمراض العقلية الذي لم تقضي فيه إلا أسابيعا لتوافيها المنية.