عشتُ أكثر من 20 سنة في ساحة جامع الفنا، وبالتحديد من سنة 1960 إلى 1980، وأقصد بذلك أنني كنت أقطن هناك، في شقة تابعة لمصلحة البريد المعروفة في مصطلحات البريد والاتصالات بـ”Recette Marrakech Médina”، حيث كان والدي الراحل يشغل منصب القابض إلى غاية سنة 1987.
وهذا ما يفسر تعلقي الشديد بالساحة، مما يدفعني اليوم إلى إبداء رأي نقدي ممزوج بالحنين.
تُعتبر هذه الساحة جوهرة مراكش منذ الأزل، ولم يقتصر ذلك على الحاضر فقط، فقد كانت دائماً القلب النابض للمدينة. وحتى في الماضي القريب، كانت نقطة الانطلاق والوصول لكل المسافرين الذين يزورون مراكش ويقيمون في “الفنادق” التقليدية قبل ظهور الفنادق الحديثة الأولى القريبة من الساحة، مثل فندق “تازي”، وفندق “غاليا”، وفندق “فوكو”، دون أن ننسى الفنادق الصغيرة المنتشرة في درب سيدي بولوكات.
كانت هذه الفنادق وجهة مفضلة للهيبيين في السبعينيات، ولا تزال حتى اليوم تستقطب عشاق السفر المغامرين الذين يعتمدون على أدلة الرحلات الاقتصادية. ويبدو أنها لم تتأثر بالأزمات، إذ تحافظ على معدلات إشغال جيدة وإقامات طويلة ومريحة.
تُعد مراكش مدينة سياحية منذ القدم، أما ساحة جامع الفنا، فهي مركز الجذب الرئيسي فيها، حيث تعج بالحياة من العاشرة صباحاً وحتى ساعة متأخرة من الليل.
يختلف رواد الساحة وأجواؤها حسب التوقيت، فخلال الصباح، يسيطر عليها فنانو “كناوة”، وسحرة الأفاعي، ومروّضو القردة، والبهلوانيون، والعروض البصرية الأخرى.
أما بعد صلاة العصر، فتتحول إلى فضاء للأداء الشفهي والموسيقي، حيث ينشط الحكواتيون والمغنون والثنائيات الفكاهية وفنانو “الستاند أب” والارتجال، مما يُسعد جمهور “الحلقات” المعتادين على هذا النوع من العروض.
وعند غروب الشمس، تتغير ملامح الساحة لتتحول إلى مطعم مفتوح في الهواء الطلق، حيث يتجمع محترفو الطهي ليقدموا أطباقهم المتنوعة، من النقانق المشوية، وحساء الحلزون، والحريرة، والبيض المسلوق، والأسماك المقلية (“كريطة”)، وأطباق الأحشاء (“باولو”)، كل ذلك وسط أجواء ودية ومأكولات شهية.
ظلت هذه العادات متوارثة على مر السنين، لكن للأسف، فقدت الساحة جزءاً من أصالتها وفنونها الحقيقية، وتحولت إلى مكان سياحي مبالغ فيه، مما أفقدها بريقها وأحياناً جعلها مزعجة ومحبطة.
قمتُ بزيارة الساحة مع عائلتي يوم السبت 9 يونيو، حيث عُرض على شاشة عملاقة بثّ مباشر من قصر البديع لعرض الكوميدي جمال دبوز، وسط حضور كثيف من السياح المغاربة والأجانب. كان كل شيء مهيئاً لقضاء ليلة ممتعة، إلا أن الدراجات النارية والسكوترات غزت المكان بحركات لا تتوقف، مصحوبة بأبخرة العوادم التي جعلت الهواء خانقاً، إضافة إلى خطر الدهس في أي لحظة! ألم تكن الساحة مخصصة للمشاة؟
بعد انتهاء العرض، قررنا تناول العشاء في أحد المطاعم المكشوفة بالساحة، حيث يُفترض أن نجد تنوعاً واسعاً في الأطباق بأسعار مناسبة. إلا أننا صُدمنا مجدداً، ليس فقط بسبب الدراجات، ولكن أيضاً بسبب المضايقات المستمرة من “الرباطة” الذين يلحّون علينا لاختيار مطاعمهم، مما جعل التجربة متعبة وغير مريحة. كما شهدنا شجاراً عنيفاً بين أصحاب المطاعم، تخللته ألفاظ نابية، مما جعلنا نندم على هذه الخروج الليلي.
كل ذلك، إلى جانب انتشار المتسولين، والبائعين المتجولين، والعروض العشوائية، زاد من الفوضى التي طغت على المكان.
شخصياً، لم أعد أتعرف على هذه الساحة التي تغيرت كثيراً. لم أشعر بعدم الأمان، لكنني شعرت بخيبة أمل وإحباط كبيرين، لأن ما كان يُفترض أن يكون لحظة جميلة من المشاركة والبهجة، تحول إلى تجربة غير مريحة.
ينبغي للجمعيات المسؤولة عن الساحة أن تلتفت إلى هذه المشاكل الصغيرة، التي تسيء إلى الصورة الأصيلة لساحة جامع الفنا.